كاشغر
عاصمة جمهورية تركستان الشرقية الأولى التي انتهت سنة ١٩٣٤م على يد خوجا نياز، تعتبر كاشغر أهم مدينة تركستانية في نظري بعد مدينة توربان، وهي معروفة بجامعها الأصفر، جامع عيد كاه الذي قتل أمامه قبل سنوات قليلة.
تعتبر مدينة كاشغر وجهة سياحية للكثير من الصينيين، قد تكون الإجراءات الأمنية أقل بقليل هنا مع معظم السياح، ولكن، لا توجد فروقات تذكر إن تحدثنا عن الرقابة الأمنية، فالمدينة بمجملها مزودة بكاميرات مراقبة في كل مكان، في كاشغر، وفي توربان، وفي القرى الصغيرة التي منعت من دخولها، تجد رجال الشرطة في كل زاوية، لم أتعرض لأي تدقيق للهوية هنا بعكس توربان، لكن كنت أجد الكثير من رجال الشرطة يدققون هويات السكان الإيغوريين، بل كنت أرى بعض رجال الشرطة يوقفون بعض السكان الإيغوريين لتفتيش جوالاتهم، ماذا سيحدث لو وجدو أي محتوى ديني؟!
أحد الأمور التي لفتت إنتباهي في كاشغر هي كثرة السكان الصينيون من قومية الهان بنسبة تتجاوز توربان بمراحل، قامت الحكومة الصينية بتهجير الكثير من الصينيين إلى هذه المنطقة كطريقة لدمج السكان مع بعضهم البعض، وعدم حصر المنطقة على الإيغوريين فقط.
يختلف التوقيت في كاشغر عن بكين بفارق ساعتين، وعلى الرغم من ذلك، فإن الوقت الرسمي المتبع هو وقت بكين، إن كانت لديك ساعة إلكترونية تقوم بإعادة تعيين وقتها تلقائياً، أو هاتفاً ذكياً، فسيتم تعديل الوقت بناء على خط الزمان والمكان، ولكن، يختلف الوقت بزيادة ساعتين كما هو الوقت في بكين، إن أردت لقاء أحدهم على وجبة طعام الغداء في الثاني ظهراً [بتوقيت بكين] فذلك يعني الثانية عشر ظهراً حسب التوقيت المحلي.
غادرت أورومتشي في الثامن والعشرون من شهر رمضان المبارك قاصداً كاشغر بواسطة الطائرة، في رحلة استمرت أقل من ساعتين، جميع رحلات خطوط الطيران في مقاطعة شينجيانج تقدم الطعام الحلال الطيب، وهي مبادرة خطوة جميلة رأيتها في كل من خطوط طيران Air China و China Eastren.
وصلت إلى كاشغر في الثالثة وخمسون دقيقة (بتوقيت بكين) لم أجد أي وسائل نقل عامة تأخذني إلى وسط المدينة حيث سأقيم، أتفق جميع ركاب سيارات الأجرة الرسمية على عدم تشغيل العداد، حتى يأخذوا أكبر حصة من المال، اختلفت مع أحدهم على سعر التوصيل إلى أن وصلنا لسعر محايد، كانت الشمس حارة جداً، وكنت اتصبب عرقاً بما يكفي لأركب السيارة وأنا منهك، بشكل لا إرادي، قلت أثناء جلوسي بمقعد السيارة "بسم الله"
سمعني السائق، نظر إلى مندهشاً وهو يردد بصوت منخفض "بسم الله.. بسم الله" ظل ساكتاً لفترة طويلة، قبل أن نصل بوقت قليل سألني بلغته الإيغورية، أأنت مسلم؟ خفت قليلاً من أن يكون هذا الشاب يعمل لدى الحكومة التي تمنع أي كلمات دينية في هذه الأيام، قلت له: أنا مسلم، أنا من "عربستان"
يوجد مقرين لبيوت الشباب في كاشغر، أحدهما تحت الترميم، والآخر كان ممتلئ بالسكان، ولم يكن ذو نظافة كافية، لذا قررت النزول في فندق يدعى فندق السلطان، والذي تغير اسمه بناءاً على طلب من الحكومة الصينية، ربما لأن اسم الفندق وتصميمه الداخلي يدل على جذور عربية عميقة، أصبح اسمه الحديث هو شينجيانج نورلان!
دخلت الفندق ووجدت في بداية المدخل أجهزة التفتيش الأمنية، وكالمعتاد هممت في وضع حقيبتي على جهاز السير، إلا أن رجل الأمن أخبرني وبلطف بأن لا داعي لذلك.
أثناء تسجيل الدخول كنت أسمع الموظف يتحدث مع زميله ويقول "إنه من المملكة العربية السعودية" كنت أظن أنه مندهشاً فقط، صعدت إلى الغرفة، توضأت وصليت ونمت قليلاً، لم تمض ساعة واحد حتى يرن هاتف الغرفة، رفعت السماعة لأسمع رجل يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة غريبة لم أعهدها على الصينيين، قال لي: أنا رجل من قسم الشرطة، أريد التحدث معك.
نزلت على الفور، خطر ببالي سائق الأجرة الذي سمعني أسمي بالله أثناء ركوب السيارة، تجاهلت الأمر، وصلت إلى الطابق الأرضي ورأيت رجل لا يبدو من الصينيين الهان، ولكنه صيني، وقف للسلام علي بحرارة، كان تعامله لطيف جداً، كنت مازلت في نعاس وقليل من الفهاوة، جلست بهدوء، اسمه الإنجليزي مايكل، أخرج شارة الشرطة ليريني إياها لأتأكد من هويته، بدأ بعدها بسؤالي بعض الأسئلة.
كنت أشعر أنه يعلم إجابة كل سؤال يسألني إياه، قال لي أولاً: أأنت طالب؟ وهي حجة يستخدمها الكثير من المسافرين الشباب لتسهيل إجراءاتهم، أجبت بالنفي ووضحت له ماهي طبيعة عملي ومصدر دخلي، سألني إن كنت قد زرت الصين من قبل، ماهي المدن التي زرتها، لماذا هنا وحيداً ولم ارتب رحلتي مع شركة سياحية، لم أجد صعوبة بالإجابة على أي من أسألته، خصوصاً بعض قضائي وقتاً طويلاً في شينجيانج.
عدت بعدها إلى غرفتي وارتحت قليلاً، خرجت أتجول بين أحياء المدينة، تنبهت إلى أن جميع المحلات الموجودة هنا محاطة بسياج أمني، سرت بشكل عشوائي، جميع المنازل تم ترميمها ولكنها مازالت محافظة على طابعها القديم، لون واحد، وتصاميم بسيطة وهادئة.
اوقفتني طفلة من قومية الإيغورو عمرها سبعة أعوام، وتتحدث الإنجليزية، كانت برفقة أمها، عندما سمعتني الأم أقول لطفلتها أنني من المملكة العربية السعودية، قالت لطفلتها "قوله له بإنك صينية مسلمة"
سرت بعدها في طريقي إلى وسط الحي، كنت أسمع اصوات لإحتفالات ظننت بأنها احتفالات عيد الفطر المبارك، كُن النساء يقفن بأبهى زينة بشكل دائري، مع موسيقى تركستانية جميلة، فيما تقف في وسط الدائرة إمرأة أو اثنتين، يقمن بالرقص بشكل جميل، يدير الحفل رجل يضع على صدره بطاقة عليها علامة الحزب الشيوعي.
وقفت في الخلف بهدوء، لم تمر ثواني قليلة حتى بدأن كل النساء بالنظر إلى والتقاط الهاتف لتصويري، حضر الرجل الذي يدير الحفل، طلب مني، وأصر في طلبه على أن أشارك الحضور الرقص! جلست هناك حتى غابت الشمس ومن ثم انصرفت.
كان اليوم التالي هو اليوم المتمم لشهر رمضان المبارك في الصين، برغم من أنه يوم عيد الفطر الأول في المملكة إلا أنهم أتموا الشهر هنا في الصين، خرجت واشتريت الخبز الذي اعتدت على تناوله مع الشاي، تجولت في كل أرجاء الحي، بدون كلل ولا ملل، التقيت مع أناس كثير من الإيغور، تحديثت معهم، جلست معهم لفترات طويلة، تجولت في الأسواق، اعتدت على وجود نقاط التفتيش عند مدخل كل سوق، كان رجال الشرطة منتشرين بين أرقة الأحياء، وكاميرات المراقبة منتشرة أيضاً في كل زاوية.
في فترة الظهيرة أردت الدخول إلى المسجد الكبير، الجامع الأصفر (عيد كاه) الجامع الذي قتل إمامه قبل عامين، عند شروعي بالدخول أخبرني موظف الأمن بأنه لا يمكن دخولي الآن، استطيع الدخول إلى الجامع في الرابعة عصراً بتوقيت بكين، انتظرت ساعتين ومن ثم عاودت الدخول مرة أخرى، طلبوا رؤية جواز سفري كالمعتاد، وعلى الفور قال لي الموظف: ممنوع الصلاة بداخل المسجد.
كان هناك رجل من رجال الأمن يلاحقني طيلة فترة تجولي بين أرجاء المسجد، هدفه التأكد بعدم تصوير الفيديو، تجاهلته تماماً، كل ما أريده هو إلقاء نظرة على جمال المسجد من الداخل، يشبه تماماً المساجد الأندلسية، فناء في المنتصف، ممرات مائية، ونوافير في كل مكان، والشجر يغطي سقف الفناء بالكامل، مما يدل على عمق وقدم هذا الجامع، الغريب حقاً في الأمر أنهم منعوني من تصوير أوقات الصلاة، وهي ورقة صغيرة كانت معلقة عند مدخل المسجد
يوم العيد الأول
صحوت في السادسة والنصف صباحاً، خرجت علي عجال إلى ساحة المدينة أترقب صلاة العيد، أهم ما يمكنني رؤيته في أي مدينة أسافر لها في هذه الأيام، ولكن، كانت الأرض خاوية على عروشها تماماً، لا وجود لأي عيد، علمت لاحقاً بأن الحكومة قد منعت الإحتفال بعيد الفطر المبارك في السنوات الأخيرة.
عدت بحزن إلى الفندق ونمت قليلاً، إنه يوم العيد الأول، ولكن، لا يوجد عيد، صحوت مرة أخرى في العاشرة، خرجت إلى الشارع، الحياة عادية جداً، لا وجود لأي مظاهر تدل على أنه عيد، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت ألاحظ الأطفال الصغار، إنهم يلبسون ملابس جميلة، إنهم يحتفلون، ولكن، بصمت.
التقيت في فترة الظهيرة مع مجموعة من الأصدقاء الذين سبق وأن رأيتهم في توربان، فتاة بلجيكية، شاب صيني، وسعودي، وهنا في كاشغر فقد تعرفت على إمرأتان من ماليزيا، وإمرأة ورجل آخران من فرنسا، ذهبنا جميعاً إلى بازار المدينة، كان شبه مغلقاً، عندما سألنا عن السبب قالو بأنه اليوم هو أول أيام العيد، ولا أحد يرغب بالعمل.
تناولنا طعام الغداء جميعاً، تجولينا كثيراً، تناقص عددنا شيئاً فشيئاً، أصبحنا الآن ثلاثة أشخاص، ذهبنا إلي مقهى مجاور تديره إمرأة فرحت كثيراً لوجودنا، أجتمع حولنا الأطفال من كل مكان، كانوا جميعاً يلبسون ملابس جميلة، وزعنا عليهم الحلوى، التقطنا الكثير من الصور، ذهبنا للراحة على أن نلتقي قبيل مغيب الشمس.
تجمعنا مرة أخرى، أخبرتهم عن موقع الحفل الذي رأيته عندما حضرت إلى كاشغر أول مرة، فرحنا جميعاً، ورقصنا مع الأطفال، كان الأطفال مبتهجين للغاية، فهي احتفالات عيد، أو كما كنت أظن، كنت أتسائل، كيف يمنع العيد هنا فيما يدير رجل من الحزب الشيوعي هذا الحفل؟!
بعد مغيب الشمس وانتهاء الحفل، هممنا بالإنصراف ولكن، حصل شيء غريب، انقسم الناس إلى مجموعتين اثنين، حضرت إمرأة، قامت بتعليق سبورة عليها عبارات باللغة الصينية، طلبت هذه الإمرأة من جميع النساء ترديد عبارات باللغة الصينية، فهمت بعضاً مما يقال، ألم أقل مسبقاً إن هذا الحفل يديره رجل من الحكومة؟!
اتفقنا نحن ثلاثة أصدقاء أن تذهب في صباح يوم الغد إلى سوق الماشية، أكبر سوق للماشية في المنطقة، كانت الساعة قد اقتربت من الحادي عشر ليلاً، قبيل الوصول إلي الفندق توقفت لشراء الآيس كريم، تناولته ودخلت غرفتي، لم تمض ساعة واحد حتى تأملت ألماً شديداً، لقد تسممت!
ألم غريب جداً، أجزم بأني أول مرة أصاب بألم في المعدة كهذا، استفرغت كثيراً، والتويت كثيراً لدرجة عدم قدرتي على الوقوف، بعد ساعتين من الصبر، نزلت إلى بهو الفندق وأنا أصرخ من شدة الألم، طلبوا سيارة الإسعاف، أخذوني إلى المستشفى، قضيت الليلة كاملة هناك.
خرجت صباحاً من المشفى وكأن شيئاً لم يكن، ركب سيارة الأجرة عائداً إلى الفندق، حزمت حقيبتي، سبقني أصدقائي وقد كانوا على علم بوضعي الصحي إلى سوق الماشية، أصبحت بحال أفضل، ارتحت قليلاً قبل أن ألحقهم في فترة الظهيرة.
عاصمة تركستان الشرقية الأولى