توربان
توربان، وفي رواية أخرى "تولوفان" أحد المدن الهامة في طريق الحرير، وهي كلمة إيغورية تكتب تورپان وتكتب بالصينية 吐鲁番市 وهي "فعليا" أحد أكثر المدن التي تحتوي على نسبة عالية من السكان الإيغورين الأصليين، الكثير من التدقيق الأمني في هذه المدينة.
تعرف المنطقة المحيطة بتوربان بشدة الحرارة في فصل الصيف، وبكثرة النفط واليورانيوم، والأراضي الزراعية، يوجد الكثير من مزارع العنب والبطيخ والشمام، يقال أن أفضل بطيخ وعنب في الصين يزرع هنا
مازالت المدينة تحافظ على الكثير من أحيائها القديمة، ولكن، في كل سنة تقوم الحكومة الصينية بإزالة جميع هذه الأحياء الأثرية بالكامل وبناءها من جديد، قد يرى البعض بأن هذا أمر جيد، فالحكومة الصينية تهتم كثيراً بتطوير أحيائها وتحسينها وأيضاً تشجيرها، ولكن ومن جهة أخرى، فإن كثيراً من ماضي المدينة يزال تماماً بدل أن يتم ترميمه، أخشى أن تكون مدينة توربان في المستقبل القريب شبيهة بالعاصمة أورومتشي.
ذهبت إلى محطة القطار في العاصمة أورومتشي في فترة الظهيرة، قاصداً توربان، كانت محطة قطار أورومتشي محاطة بسياج أمني على مقدمة نقطة تفتيش أمنية، طلبت مني الموظفة إخراج جواز سفري، تفحصت الموظفة جواز السفر بجميع صفحاته ولم تستطيع التعرف على جنسيتي، سألتني باللغة الصينية عن بلدي، لم أكن أفهم ما تقول، سمعت الموظفون الآخرون يقولون لها "إنه أفريقي"، فسمحت لي بالدخول!
بعد تجاوز نقطة التفتيش الأولى رأيت مبنى متوسط الحجم قبيل المبنى الرئيسي، دخلت بالداخل، فإذا بنقطة تدقيق الكترونية، رأيت كل شخص يضع بطاقته الوطنية على قارئ الكتروني، ومن ثم يسمح له بالدخول، أخبروني بأنه بإمكاني تجاوز هذا المبنى والدخول مباشرة إلى المحطة، علمت لاحقاً أنه على كل مواطن إيغوري تسجيل دخوله بواسطة بطاقة الهوية قبل دخول محطة القطار.
اشتريت تذكرة القطار بـ ٤٩ يوان صيني، على أن يتحرك القطار بعد ربع ساعة، سبق وأن ركبت العديد من القطارات في الصين لذا فكل شيء سهل بالنسبة لي الآن، إلا أنني لاحظت بعضاً من الإختلاف هنا في أورومتشي.
كانت إجراءات ادخال الركاب إلى القطار بالغة في الحماية والتدقيق الأمني، يتم ادخال الركاب دفعة واحد، كما يتم اغلاق جميع بوابات المغادرة الأخرى واقفال جميع الأرصفة ماعدا رصيف القطار الذي سنغادر منه، لم أرى شيئاً كهذا مسبقاً.
تحرك القطار في موعده، كانت الإرشادات والتعليمات باللغة الصينية والإنجليزية والإيغورية، وهو أمر جميل حسن، تأملت الطريق الصحراوي الجاف، تم ايصال السكك الحديدية إلى هذه المنطقة في عام ٢٠١٤م فهي ماتزال حديثة، ساعة واحدة حتى وصلت إلى توربان.
لا يوجد شيء يستدعيك للجلوس في محطة قطار توربان، لفت إنتباهي أن هناك مخرجين اثنين، احدهما دون تفتيش (يخرج منه الصينيون ذو قومية الهان) والآخر يحتوي على نقطة تفتيش إلكترونية، يقف بجانبها شرطي يدقق على هوية كل من يريد الخروج، إن كان الشخص من قومية الإيغور فيجب عليه التوجه إلى المخرج الثاني ليضع بطاقة الهوية على القارئ الإلكتروني والتقاط صورة شخصية له.
عندما وصلت طلب مني الشرطي الإنتظار جانباً، حضر شرطي آخر بعد مدة من الوقت وطلب جواز سفري، سرت برفقته إلى مكتب خارجي صغير، سألني الشرطي بضعة أسألة عن سبب حضوري إلى هنا، وعن عنوان سكني في توربان، سألني إن كان لدي رقم هاتف صيني، التقط صورة لجواز سفري، والتقط صورة لي أيضاً، في شينجيانج، يجب عليك أن تعتاد على أنه قد يتم إيقافك للتصوير في أي لحظة.
ركبت سيارة الأجرة متوجهاً إلى عنوان السكن، كان السائق إيغورياً مبتسماً، جلست أتأمل المنظر العام لمدة نصف ساعة، شوارع فسيحة، أشجار خضراء جميلة في كل مكان، هدوء تام، ولكن، هناك الكثير من كاميرات المراقبة!
سرعان ما وصلت إلى حي قديم عشوائي غير مسفلت، بيوته أغلبها من الطوب والطين، هنا سأسكن، في بيوت الشباب DAP Hostel
طرقت جرس الباب ليفتح بشكل آلي، دخلت، وإذا بي أرى فناء جميل مغطى بأوراق شجر العنب، طاولة في المنتصف، وطالة أخرى بطراز إيغوري، ومروحة قديمة تصدر صوتاً يذكرني ببيتنا القديم في مكة، والغرف تحيط الساحة من كل الجهات، تم طلاؤها باللون الأبيض والأزرق، أحببت هذا المكان من أول لقاء.
ابتسمت لي الموظفة بكل ود، ناولتها جواز سفري، سأقيم هنا لمدة ثلاث ليالي، طلبت مني الجلوس حيث تقوم بتسجيل بياناتي لدى قسم الشرطة، بعد حوالي خمس دقائق نادتني الموظفة، التقطت لي صورة بواسطة هاتفها المحمول، لم أستغرب ذلك أبداً، بل وأصبحت أبتسم ابتسامة عريضة لكل ما يقول لي قف، سنلتقط لك صورة.
أخذتني الموظفة إلى غرفتي المشتركة، غرفة رقم ١٠٥ تعرفت بعدها على مرافق المنزل، إن هذا المنزل هو ملك لأسرة صينية يقيمون فيه، قاموا بتحويله إلى نزل للشباب، وهو منزل أثري قديم جداً، الجلوس بداخله يشعرك وكأنك في قلب آسيا الوسطى.
كانت الساعة حينها حوالي الرابعة عصراً، كنت صائماً ذلك اليوم، دخلت الغرفة لصلاة الظهر والعصر والإرتياح قليلاً، وجدت شاباً من سلوفينيا، ابتسم عندما علم أنني من المملكة العربية السعودية وقال: "ستقضي وقتاً ممتعاً هنا"
ارتحت قليلاً ليدخل الغرفة شاب صيني حضر من جنوب شرق الصين، يتحدث اللغة الإنجليزية بطريقة ممتازة أثارت استغرابي، علمت فيما بعد بأنه طالب في كلية الطب، تعرفت عليه، أصبح هو ومجموعة أخرى من الذين حضروا معي في نفس القطار جميعهم أصدقاء لي طول فترة بقائي في توربان.
خرجت لأتجول في الحي القديم، بيوت بنية اللون، شوارع قديمة، والغبار يملئ المكان، اجتمع حولي أطفال يتسائون عن هذا الكائن الغريب، كانوا فرحين سعيدين جداً، كحالي تماماً، خرجت إلى الشارع الرئيسي، شارع وسيع مشجر يعكس تماماً الأحياء القديمة المحيطة به، كنت أسير بشكل عشوائي دون هدف، رأيت على بعد بضعة أمتار مركزٌ لشرطة، ممرت بجانبه دون مبالاه، كنت متأكداً تماماً أنه سيتم إيقافي.
كما ظننت، أوقفني الشرطي فوراً، حاول التحدث معي باللغة الصينية فأجبته معتذراً بأني لا أجيدها، اجتمع حولي خمسة من رجال الشرطة، يحملون رشاشات كبيرة، طلبوا رؤية جواز سفري، بعد محاولات عدة وباستعانة بإحدى برامج الترجمة كان الحوار التالي:
- منذ متى أنت هنا في توربان؟
- وصلت للتو، منذ ساعة
- كيف وصلت؟
- بالقطار
- من أين أتيت؟
- من العاصمة أورومتشي
- لماذا أتيت إلى هنا؟
- للسياحة
- لماذا توربان؟
- أردت رؤرية المدينة
- مع من أتيت؟
- وحيداً
- أين تسكن؟
- في (هوستيل) مجاور
- أين تريد الذهاب الآن؟
- إني أتسكع في المدينة وأتجول في شوارعها، أليس هذا ما يقوم به السائح لأول مرة؟!!
أثناء هذا الحوار كان هنا شرطي يلتقط لي الصور من كل زاوية، طلبو مني الإنتظار حتى يأتي من هو مسؤول عنهم لرؤيتي، أثناء الإنتظار حضر الشرطي الذي كان يحقق محي وهو مستغرب استغراب شديداً، كان يردد مع رفقته عبارات كثيرة لم أفهم منها شيئاً إلا أنهم كانوا يقولون" :إنه سعودي، إنه سعودي"، طلب مني بعد ذلك أن يلتقط (سيلفي) لحتفظ بها!
حضرت سيارة أخرى كان بها رجل لا يرتدي البدلة العسكرية، يبدو أنه قائدهم، تفحص جوازي وسألني نفس الأسئلة المتكررة، سمح لي بالذهاب، إنها أول ساعة في توربان!
ذهبت إلى الحي المقابل، بضعة مطاعم، متجر صغير، ومسجد محاط بسياج أمني، وبالطبع، مركز شرطة، سرت إلى المسجد الذي كان محاطاً برجال الشرطة، لم يوقفني منهم أحد، ما إن تجازتهم حتى رأيت رجل يضع علي صدره علامة الحزب الشيوعي، قال لي إنه من الحكومة، قال لي إن كنت تريد دخول المسجد فتعال إلى هنا بعد ساعتين.
أكملت تجولي في الحي، هذا الحي مليئ بالإيغوريين، رجالاً ونساءاً، الأطفال يلعبون في كل مكان، وكبار السن يجلسون على رصيف الطريف، صرخ إلي أحدهم، ذهبت إليه، كان يجلس هو وصديقه يشربون الشاي، سألاني باللغة الإيغورية عن بلدي، قلت لهم "عربستان" هللو ورحبوا، دعاني الرجل الآخر لدخول المطعم، كنت صائماً، قلت له وأنا أأشر على الشمس، سآتي بعد مغيب الشمس، همس له الرجل الذي بجانبه قائلاً، إنه رمضان، إبتسمت لهم، ذهبت والحزن يتسلل إلى قلبي.
إنهم ممنوعون من صيام شهر رمضان، ويجبرون على فتح مطاعمهم والتناول في نهار رمضان، ومن يرفض ذلك فإنه سيكون عرضة للعقاب، عدت إلى المنزل أستعد لتناول الإفطار، اجتمعت بأصدقائي، جلسنا نتحدث في أمور عدة، حضرت مالكة المنزل وجلست أمامي وهي محرجة قليلاً، قالت لي: "خالد، أنتم في السعودية تذهبون إلى المسجد للصلاة دائماً"، أبتسمت لها قائلاً: "إني أعلم أني لا أستطيع الصلاة في أي مسجد هنا، الأمور تختلف قليلاً، أعلم ذلك، إني أصلي في غرفتي"، قالت لي فوراً: "ليس هذا فحسب، لقد أتصل بي رجال الشرطة وأخبروني أن أقول لك، بأن لا تقترب من أي مسجد، وأن لا تصلي في المسجد، وأيضاً، لا تقم بتصوير أي مسجد، لقد أكدوا علي أن أقوم بتنبيهك" تنفست الصعداء! وبالطبع، لم أخبرها أني حاولت الدخول إلى أحد المساجد قبل قليل.
غربت الشمس في العاشرة مساءاً، تناولت ماتيسر لي من ماء وتمر، شاركت أصدقائي الصينيين بعضاً منه، نال التمر على استحسانهم، خرجنا بعد ذلك لتناول طعام العشاء في مطعم مجاور. بعد منتصف الليل، وفي الثاني عشر والنصف ليلاً، بينما أجهز نفسي للنوم، حضرت مالكة المنزل مرة أخرى وقد صحوت من نومها، قالت لي: "خالد، لا تقلق ولا تخف، لقد أخبرتهم أنك تقيم هنا لثلاثة ليالي، وأنك سائح مهذب، إن رجال الشرطة ينتظرونك في الخارج، أحضر جواز سفرك وتعال معي".
خرجت من الغرفة اجمل جوازي بيدي، رأيت أربعة من رجال الشرطة يقف أمامهم رئيسهم، ناولته جوازي والتقط صورة له كالمعتاد، كان يوجه أسألته للإمرأة وهي تترجم لي، سألني قائلاً: "هل حضر مباشرة من السعودية إلى هنا؟" أجبت فوراً، كلا، فقد ذهبت إلى بكين وشيان وأورومتشي، طلب مني ما يثبت صحة كلامي، أخرجت تذكرة قطار بيكن إلى شيان، أريته أيضاً كرت صعود الطائرة للرحلة من شيان إلى أورومتشي، وتذكرة القطار من أورومتشي إلي هنا، إلتقط صور لهم جميعاً، قال لي مذكراً مرة أخرى بأن لا أصور رجال الشرطة، المباني الحكومية، والمساجد، هذا هو يومي الأول في توربان.
صحوت في اليوم التالي في السابعة صباحاً، خرجت أسير في هذا الحي الجميل قاصداً مخبزاً مجاوراً أتناول فيه طعام الإفطار، كانت وجبة الفطور غريبة بالنسبة لي ولكنها بالطبع، لذيذة.
اتفقت أنا ومجموعة ممن التقيت بهم البارحة، أن نذهب إلى مسجد مجاور تم تحويله إلى متحف، سرنا لمدة نصف ساعة إلى أن وصلنا إلى هذا المسجد، مسجد الأمين ذو المنارة الأطول في الصين، بني سنة ١٧٧٧م، تم منع الصلاة به وتحويله إلى متحف في السنوات الأخيرة، تحتاج لشراء تذكرة بمبلغ ٤٥ يوان لدخول المسجد.
مررنا بعد ذلك بمزارع العنب، كانت زيارتي في موسم ثمار العنب، لذا فقد كانت الأشجار جميعها مليئة بعنب أخضر اللون، تجولنا قليلاً قبل أن نعود إلى المنزل استعداداً للرحلة التالية.
قمنا بالتنسيق مع سائق من أهل المدينة حضر بسيارته في تمامم الثانية ظهراً ليأخذنا لعدة معالم حول المدينة، بدأنا رحلتنا بالتوقف عند مطعم في قرية صغيرة، كانت هناك موظفة تدقق على كل من يدخل إلى المطعم، ألقت الموظفة نظرة على هويات أصدقائي الصينيين، جميعهم من قومية الهان، أخرجت جوازي، ألقت نظرة سريعة ثم أعادته إلي.
كان المطعم رغم بساطته يقدم طعاماً صينياً، وطعاماً إيغورياً شهي جداً، تناولنا ما تيسر من طعام قبل أن نكمل مسيرنا.
توقنا خلال سفرنا عند نقطتين من نقاط التفتيش، كنا ننزل جميعاً من السيارة ونسير في مسار مخصص للمشاه ليتم التدقيق على هوياتنا فيما يتم تفتيش السيارة، لا يستغرق الأمر أكثر من خمسة دقائق في الغالب.
وصلنا إلى قرية تدعى أوبال، وهي من أجمل ما رأيت في توربان، تقع على مرتفع بين الجبال، ومصصمة تصميماً هندسياً ومعماري جميل، إلا أنها الآن خالية تماماً من السكان، إلا قليل منهم، تجولنا قليلاً، تأملت في تفاصيل الطرق والمنازل، كانت هذه القرية مكتظة بالحياة في يوم من الأيام.
صعدنا إلي أعلى القرية، رأيت رجل كبير في السن، يبدو من ملامحه أنه مسلم، ألتقط أصدقائي الصينيون الكثير من الصور معه، سألهم عني، أخبروه أنني من السعودية، تألمني كثيراً، أراد التأكد، أخذ يردد (لبيك الله هم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) أكملت معه قائلاً (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وسط ذهول ودهشة من الأصدقاء الصينيين.
دخل هذا الرجل السبعيني إلى منزله مسرعاً، أحضر لي مستندات يريني إياها، ذهب هذا الرجل قبل أربعة أعوام إلى السعودية لتأدية مناسك الحج، مازال يحتفظ بكل شيء، بطاقة الحج، كرت صعود الطائة، وبقية المستندات الأخرى.
سرنا بعد ذلك في طريق كان مليئ بآلات التنقيب عن النفط، إن هذه الأرض مليئة بالبترول، وهو مصدر دخل مهم للدولة منذ إنضمامها للحكم الصيني، ذهبنا إلى الصحراء، نعم، الصحراء، قال لي أحد الأصدقاء الذي كان برفقتي: نعلم أنك من بلد لديه الكثير من الرمال، ولكن لم يسبق لنا رؤية الرمال، لذا، سنذهب إلى الصحراء، وستحضر معنا.
الغريب في الأمر أنه يجب عليك دفع تذكرة دخول لرؤية الصحراء، جلست أردد طيلة الوقت: أأدفع المال لأرى الرمل؟!! في بلادي يوجد صحراء في كل مكان، نبيت بها عدة أيام ولا ندفع فلساً واحداً، والأغرب من ذلك، أننا نركب القطار ونسير في طريق مهيأ حتى نصل إلى وسط الصحراء، جلسنا هناك حتى مغيب الشمس.
عاصمة تركستان الشرقية الأولى