خالد صديق، مصور، رحالة

روسيا

رحلة إلى روسيا القديمة

الجزء الروسي من أوروبا الوسطى، المنطقة التاريخية المهمة والتي قد يغفل كل من يزور روسيا عن زيارتها، الكثير من قصور الكرملين المحصنة والكاتدرائيات التي تعود إلى القرون الوسطى، والعديد من المعالم الأثرية في هذه المدن التي زرناها في أجواء هادئة بعيداً عن صخب وضجيج حياة المدن، الأمر الذي لا أحبذه كثيراً، في هذه المناطق الهادئة هناك رأيت طباع الشعب الروسي بحقيقته وعفويته، ما رأيته من طباع ومواقف كانت تعكس تماماً ما كنت أسمع عنه عن الشعب الروسي، الأمر الذي زادني تأكيداً مرة بعد مرة، بأن لا أحكم على شعب من خلال زيارتهم في عواصمهم!

سيغطي هذا التقرير زيارتي لكل من مدينة: ڤيلكي نوڤجورود، البسكوف، قرية إزبوسك، بلدة بيتشوري الصغيرة، مدينة سمولينسك والتي يقال عنها بأنها “مفتاح روسيا” والتي تعرف بسور الحصن الأطول في أوروبا، سيكون هذا التقرير طويلاً بعض الشيء متضمناً بعضاً من المشاهدات التي عشتها هناك، أرجو لك قرائة مفيدة وممتعة

ڤيلكي نوڤجورود

 مصنفة ضمن منظمة اليونيسكو العالمية

والتي تسمى أيضاً “نوڤجورود الكبيرة”، أو “نوڤجورود” هناك ثلاث مدن في روسيا تحمل نفس الإسم “نوڤجورود” والمدينة الأساسية المعروفة هي ما زرناها وإسمها الكامل “ڤيلكي نوڤجورود” وهي تقع بين كل من موسكو وسانت بيترسبيرغ، تقع هذه المدينة التاريخية على نهر الفولخوف، ونهر الفولخوف هو فرع متمدد من بحيرة تدعى “إلمن”، كانت هذه المدينة هي عاصمة روسيا الأولى، تأسست المدينة في القرن التاسع من قبل الملك Viking King Rurik وهو أول من أصبح ملكاً لروسيا، وهو أيضاً من أسس سلالة تدعى Rurik Dynasty التي ظلت تحكم حتى منتصف القرن السادس عشر

كانت هذه المدينة في القرن الثاني عشر تسيطر على معظم دول أوروبا الشرقية، من إستونيا وحتى جبال الأورال، مما مكن لها أن تكون واحدة من أكبر الدول الأوروبية في العصور الوسطى

تعتبر مدينة ڤيلكي نوڤجورود مصنفة رسيماً ضمن منظمة اليونيسكو العالمية منذ عام ١٩٩٢م وهي مدينة صغيرة هادئة لا تجاوز عدد سكانها ٢٢٠،٠٠٠ نسمة فقط

أين تذهب في ڤيلكي نوڤجورود؟

كرملين نوڤجورود

كان الروس عندما يسيطرون على أي مدينة أو منطقة في روسيا، يبنون فيها قصراً كبيرا ذو أسواراً منيعة يتخذونها مركزاً للحكم، يسمونها الكرملين، يقال بأن كرملين نوڤجورود هي أقدم كرملين في روسيا

كاتدرائية القديسة صوفيا دميناتس

وهي كنيسة قديمة بنيت بين عام ١٠٤٥م و ١٠٥٠م في زمن فلاديمير ياروسلافيتش، ويقال بأنها أقدم كنسية لازالت قيد الإستخدام في روسيا 

دير يوريف

وهو مجمع ديني تاريخي بني سنة ١٠٣٠م  في العصور الوسطى، على نهر الفلكوف، رأيته من بعيد ولم أكلف نفسي عناء الذهاب إليه

كيف أصل إلى ڤيلكي نوڤجورود؟

أنسب طريقة للذهاب إلى هذه المدينة هو عن طريق القطار، يستغرق حوالي ثلاث ساعات ونصف من مدينة سانت بيترسبيرغ.

كم يوم يكفي لزيارة ڤيلكي نوڤجورود؟

المدينة صغيرة جداً والنهار طويل هنا، لذا، فإن يوماً كاملاً كافي جداً لزيارة جميع المعالم المهمة.


البسكوف

من هنا بدأت روسيا

كانت تسمى قديماً “بليسكو” وهي العاصمة والمركز الإداري لمقاطعة بسكوف أوبلاست، تبعد مسافة ٢٠كم فقط من دولة أستونيا، وهي ذو تعداد سكاني يتجاوز ٢٠٠.٠٠٠ نسمة بقليل، وهي أحد أجمل المدن التي زرتها في روسيا، يمر نهر الفلكوف من خلال هذا المدينة، كان لمدينة البسكوف فرصة أن تكون عاصمة لدولة روسيا في يوم ما، رأيت خلال إقامتي في البسكوف عبارة ترجمها لي أحد الأصدقاء تقول “روسيا بدأت من هنا” عند زيارتك للبسكوف تستطيع الذهاب إلى كل من قرية إزبوسك وبلدة بيتشوري، وذلك من محطة الباصات المركزية في المدينة

أين تذهب في البسكوف؟

كرملين البسكوف

وهو أجمل كرملين رأيته في روسيا بنظري، وهو يطل بشكل مباشر على نهر الفولكوف، رائعة ومميزة بمبانيها الحجرية، وزيارتها تغنيك عن بقية المعالم في البسكوف، بالإضافة إلى التجول في شوارع المدينة وحدائقها

كيف أصل إلى البسكوف؟

يصل للمدينة شبكة القطارات الموسعة، بسبب إقامتي السابقة في ڤيلكي نوڤجورود، فقد كانت قريبة إلي حد كبير من البسكوف، لذا فقد زرتها بالباص.

 

كم يوم يكفي لزيارة البسكوف؟

ثلاثة أيام كاملة كافية جدا لزيارة البسكوف والمناطق المحيطة بها

إزبوسك وبيتشوري

إزبوسك وبيتشوري

أقرب نقطة إلى إستونيا

أوصيك بشدة زيارة قرية إزبوسك في البسكوف، هي عبارة عن قرية ومستوطنة صغيرة، تقع على جبل يدعى زيرافيج، العديد من المواقف والأحداث الروسية حدثت هنا، كما أنه قد قيل لي أن هناك الكثير من الإجتماعات الدولية عُقدت هنا، قرية إزبوسك مهمة جداً لعلماء الآثار وعلماء البيئة، هنا سترى الهدوء بعينه، أرياف جميلة، منازل صغيرة ورائعة، أناسها مبتسمون دائماً، بحيرات صغيرة وشلالات وينابيع تسمى “أوفسلوفسكي”، قلاع تعود إلى القرن الرابع عشر، ومناظر خضراء جميلة على مد البصر، يستغرق الوصول إليها حوالي نصف ساعة تقريباً من مدينة البسكوف.

بعد زيارتك إلى قرية إزبوسك لاتفوت فرصة الذهاب إلى بيشوري، وهي بلدة تأسست عام ١٤٧٢م، يوجد بها كنسية تدعى أسومبتيون، قيل بأنه قد حُفرت من الصخور، وهي أول كنسية في بيتشوري، تقع هذه البلدة على الحدود الروسية الإستونية، تعرضت للإيقاف هنا عدة مرات ظناً من رجال الشرطة بأنني دخلت إلى هنا متسللاً قادماً من إستونيا

يوجد في هذه المدينة حصن عظيم بُني عام ١٥٦٥م، تعرض هذا الحصن لأكثر من مرة من هجوم كل من القوات البولندية والسويدية في القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، تم تصنيفها كبلدة في عام ١٧٨٢م، كما أن بيتشوري أحتلت من قبل الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى

سمولينسك

وهي مدينة تقع على نهر يدعى دنيبر، تم تدمير جزء كبير منها عدة مرات بواسطة هتلر ونابليون! تبعد كثيراً عن البسكوف، بطريق يصل طوله إلى ثماني ساعات بالسيارة أو الباص، وهي أنسب مدينة تستطيع العودة منها إلى موسكو، يوجد في سمولينسك جامعة سمولينسك، أحد أبرز الجامعات في روسيا، كما يوجد على مقربة من المدينة قرية تدعى تلاشكينو

مشاهدات من روسيا القديمة

استيقظت في صباح يوم الأربعاء ٢١ يونيو ٢٠١٧م، بتمام السادسة صباحاً، بعد نوم استمر ساعتين فقط، كنت قد قضيت الليلة البارحة بصحبة بعض من الأصدقاء في سانت بيترسبيرغ، خرجت من فندق الكبسولة، وبواسطة تطبيق سيارة الأجرة (أوبر) ذهبت إلى محطة القطارات الواقعة وسطة المدينة والتي تسمى Nevskiy prospekt، كان الجو ماطراً في غاية البرودة، كان وصولي قبل موعد القطار بنصف ساعة، محطة القطار كبيرة من الداخل، يوجد بها عدد لا بأس به من المقاهي ذهبت لأحدهم واشتريت القهوة، كنت أحتاج أضعاف الكمية التي أخذتها حتى استطيع طرد النعاس في ظل هذا الجو البارد، أردت البحث عن شيء آكله فتوجهت للمتجر المجاور، أخذت فطيرة كنت أظن أن مابداخلها حشوة التفاح، إلا أنني اكتشفت لاحقاً بأنها محشية بلحم الخنزير.

انطلق القطار في موعده المحدد، كانت مقصورة الدرجة السياحية جميلة ومقاعدها مريحة، كما أن دورة المياة كانت نظيفة جداً، استغليت الوقت بمشاهدة المناظر الجميلة الرائعة الخلابة، وكتابة المذاكرات حتى وصلت إلى ڤيلكي نوڤجورود بعد أقل من أربع ساعات.

فور خروجي من محطة القطار سرت ما يقارب العشر دقائق فقط، إلى وقت إلى الفندق حيث سأقيم، مدينة كهذه لايوجد بها بيوت للشباب كما اعتدت أن أسكن دائماً، كان الفندق مواجه لقصر الكرملين وموقعه مميز، اسمه Гостиница Волхов كان سعر الإقامة لليلة واحدة ٢،٥٠٠ روبل، وهو ما يقارب ١٦٠ ريال سعودي تقريباً، كما كان وصولي للفندق في حوالي الثاني عشر ظهراً، أي قبل موعد تسجيل الدخول الرسمي، إلا أنهم سمحو لي بالدخول

نمت بشكل لا إرادي، غرقت في النوم حتى الرابعة عصراً، خرجت بعدها للبحث عن شيء أتناوله، تجولت بداخل الكرملين فترة من الوقت ومن ثم عبرت النهر حتى وصلت إلى وسط المدينة، وتوقفت عند أحد المطاعم.

بعد تناول وجبة طعام الغداء التي أمدتني بالكثير من الدفئ والطاقة، عدت إلي محطة القطارات وهي مجاورة لمحطة الباصات، دخلت محطة الباص لشراء تذكرة باليوم التالي إلى مدينة البسكوف، كنت قد سألت موظفي الإستقبال في الفندق عن كيفية الذهاب إلى البسكوف، فأشارو لي بهذه الطريقة.

اشتريت تذكرة باتجاه واحد من ڤيلكي نوڤجورود إلى البسكوف، كان سعرها ٥٩٠ روبل (٣٧ ريال سعودي) واجهت بعض الصعوبة للشرح للموظفة عما أيده بالتحديد، كل ما قلته لها هو: “بسكوف، زافتارا” أي: مدينة البسكوف، غداً!! يصاحبها إبتسامة خجلة وحرج شديدين، أظن أنها سألتني عن الوقت، فالباص يتحرك صباحاً وبعض الظهر، لكنني لم أفهم، حتى قامت بأخذ ورقة وكتبت عليها الوقت والتاريخ، لأومئ بالرأسي مؤكداً ذلك، وبإبتسامة عريضة، هكذا كنت أدير أموري في روسيا!

عدت إلى الفندق وارتحت قليلاً قبل أن آخذ كاميرا التصوير الجوي وأصور المدينة من الأعلى، في بداية التصوير رآني مجموعة من الشباب الروسيين، أرادو التحدث معي ولم يعرفوا كيف هي الطريقة، يبدو أن الفتاة هي أكثرهم تعلماً وجرأة، دفعوا بها أمامي، قالت بكلمات شبه مستحيلة الفهم بأنهم يريدون مني أن أصورهم بالكاميرا الطائرة وأرسل لهم الصورة، وافقت مرحباً بذلك، كانت دهشتهم واضحة عندما سألوني عن موطنهم وأجبت بـ “سآؤودي سكارابيا” أي المملكة العربية السعودية.

بعد غروب الشمس، والتي غربت في حوالي الحادي عشر ليلاً، ذهبت إلى المتجر لشراء بعض الحاجيات الخفيفة كالزبادي والكعك والموز وغيره، وكانت التوقيت حينها قد تجاوز الحادي عشر والنصف ليلاً، كانت المنطقة بمجملها هادئة مظلمة مريبة، من المعروف أنه في هذا الوقت ترى مالا تراه نهارا في روسيا، كنت أسير وحيداً بهدوء تام، قبل أن أرى رجل وإمرأة في بداية الأربعينات من العمر، وكل منهم يمسك بقارورة من الشراب المسكر في يده، انتبهت المرأة إلي! يبدو انهم ارتابوا جميعاً عندما رأو شابا ذو بشرة داكنة في جو داكن! أتت الإمرأة وكان يبدو عليها أنها بغير وعيها، مدت يدها تريد المصافحة، كنت أشم رائحة الشراب المسكر من قبل أن تقترب مني! غيرت طريقي مبتعداً عنهم جميعاً، قامت بالركض واللحاق بي، ولكن كيف لمن فقد عقله أن يستطيع الركض بإتزان؟! تعثرت وسقطت الإمرأة، وشتمني الرجل!


صحوت في اليوم التالي في السابعة صباحاً، كان إفطار الفندق متواضعاً جداً، خرجت بعد تناول طعام الإفطار سيراً إلى محطة الباصات ووقفت صدفة عند باص لا أعلم إن كان هو الباص المعني أم لا، ناولت السائق تذكرة الباص ورحب بي بالدخول، اخبرته بأن لدي حقيبة أريد وضعها في المخزن الخاص بالباص، اخبرني بأن وضع الحقيبة هنا بمقابل مادي يساوي ٥٠ روبل (٣ ريال سعودي)

تحرك الباص المتواضع متجهاً إلى البسكوف، كان الطريق صغيراً ضيقاً ذو اتجاهين (كما هي أغلب الطرق في روسيا) توقف مرتين، مرة عند مطعم كئيب جداً، ومرة عند دورة مياة أكثر كآبة، كنت أريد استخدام دورة المياة، كانت عبارة عن منزل خشبي صغير جداً، عندما حان دوري -كنت في آخر الطابور- دخلت إلى دورة المياة وياليتني لم أدخل، ما رأيته هو أرض خشبيه تحتوي على فتحة صغيرة، وأسفل هذه الفتحة حفرة، تقدمت قليلاً ورأيت مالا يسر العاقل وغير العاقل، أما عن الرائحة، فلا تعليق، ولاشيء غير ذلك، لا مناديل ولا ماء، كنت محظوظاً بأنني كنت الأخير، خرجت مسرعاً وتوجهت إلى خلف دورة المياة بين الأشجار، فهي أنظف بكثير، وفعلت ما فعلت مستعيناً بالإستنجاء، هل أنا حقاً في روسيا؟!

أكمل الباص طريقه كانت المناظر جميلة رائعة لا بأس بها، لم يتوقف الباص حينها مرة أخرى، وإن توقف فلن أنزل منه أبداً. وصلنا إلى البسكوف بعد حوالي ٤ ساعات من بداية الرحلة، أي على مقربة من الثاني عشرة ظهراً، كل شيء في محطة الباصات باللغة الروسية، يوجد كشك صغير لبيع بعض من المأكولات الخفيفة، كشك آخر لبيع المجلات والصحف الورقية، جهاز لبيع بعض المشروبات الباردة، لوحة كبيرة فيها جميع الوجهات التي ينطلق إليها الباص،  لوحة أخرى فيها جداول ومواعيد الرحلات، كل هذا باللغة الروسية، وقفت طويلاً أتأمل وأنظر إلى هذه اللوحات التي لم أفهم منها شيئاً، اعتمدت على ما تعلمته من أحرف روسية كي أفهم ولو القليل، نظرت إلى شباك التذاكر فوجدتهن كلهن نساء، مازلت أعاني الأمرين عند محاولة التحدث مع النساء بلغة لا يفهمونها، ذهبت إلى من رأيتها تبتسم كثيراً، ظناً مني بأنه ستكون أكثر لطفاً.

قلت لها باللغة الإنجليزية أنني أريد حجز تذكر بعد يومين إلى مدينة سموليسنك، لم تفهم الإمرأة ماقلته ولكن عندما سمعت كلمة سمولينك أخذت ورقة وكتبت عليها وقت الإنطلاق إلى هذه المدينة، ناولتها جواز سفري، قالت كلمات متسارعة فهمت من خلالها بأنه علي الحجز في وقت لاحق.

خرجت من المحطة معتمداً على برامج سيارات الأجرة (أوبر - ياندكس وغيرهم) فلم أجد منهم شيئاً هنا، ركبت سيارة أجرة عادية وأوصلني إلى بيوت الشباب بتكلفة تقارب ١٢ ريالاً سعودي.

كان بيوت الشباب هذا حديث العهد، نظيفاً جداً، ورائحته زكية دائماً، جميع أثاثه من إيكيا، اسمه HostelsRus - Pskov ХостелыРус - Псков دخلت فرأيت الفتاة - عرفت فيما بعد أن اسمها ماغريتا - على طاولة الإستقبال، فعلت ما يجب علي فعله في روسيا دائماً، خلع حذائي أولاً قبل كل شي.

كان بيوت الشباب خالياً حينها، يوجد شخصين اثنين في نفس الغرفة التي اسكنها ولم أرهما أبداً، دخلت إلى غرفتي وصليت الظهر والعصر، خرجت بعدها للتجول بين معالم المدينة، زرت الحدائق والكرملين وتناولت طعام الغداء، قضيت وقتي في الخارج حتى المساء، كانت الشمس لا تغرب بكامل غروبها هنا أيضاً، فقد تجاوزت الساعة الحادي عشر ليلاً ومازالت السماء زرقاء، كما أن الأجواء كانت باردة جداً هنا، بدرجة حرارة وصلت إلى ٨ درجات مئوية، في فصل الصيف!

اسمي باللغة الروسية

اسمي باللغة الروسية

عدت بعدها إلى بيوت الشباب، كان الرجلان نائمين، جلست في الصالة الرئيسية أشحن بطاريات جميع معداتي، كنت أنوي زيارة قرية إزبوسك وبلدة بيتشوري بيوم الغد، رأيت خريطة في صالة الجلوس، أخذتها لتفحصها وبادرت الفتاة بمساعدتي فيما أريد، كانت تتحدث الإنجليزية بشكل ركيك جداً لا يساعد على الحوار أبداً، أخبرتها عما أريد فعله غداً، كان بالها طويلاً جدا، استغرق الأمر ٤٥ دقيقة كي نضع خط السير الكامل لما سأفعله غداً، لم أكن أتصور أنني سأجد بالاً طويلاً في موسكو أو سانت بيترسبيرغ، فقد طُردت مرتين في سانت بيترسبيرغ من أول محاولة أيضاً، خلال محاولة نقاشي مع الفتاة كنت استخدام جميع الوسائل المتاحة، لغة الإشارة، الإنجليزية، الروسية، وحتى العربية أيضاً، كانت الفتاة سعيدة جداً بلقائها بأول شاب عربي، أهديتها عملة ورقية من فئة الريال السعودي كتبت عليها اسمها باللغة العربية، فيما كتبت هي اسمي باللغة الروسية أيضاً.


استيقظت صباح اليوم التالي في العاشرة صباحاً، افطرت في الطريق بينما كنت متوجهاً إلى محطة الباصات، بسبب محاولات البارحة استطعت شراء تذكرة الباص بسرعة هذه المرة، ركبت الباص في تمام الثاني عشر متوجهاً إلى قرية إزبوسك ومن ثم بيشوري، فور دخولي الباص التفت جميع الأنظار إلي، فليس من المعتاد أن يرون سائحاً يركب باص محلي في مدينة كهذه، اتجهت إلى نهاية الباص وجلست في المنتصف، كان الصف الأخير يحتوب على أربعة مقاعد، كنت جالساً في المقعد الثاني من اليمين، كان بجانبي الأيسر رجل تبدو عليه ملامح الهدوء، وامرأة تجلس في الزاوية تبدو عليها ملامح الريبة، فور جلوسي أخذت هذه الإمرأة بالتحديق بي والتحدث بكلمات روسية لم أفهم منها شيئاً، وبضحكات غريبة، أدركت حينها أن تأثير الشراب المسكر لا يزال عالقاً بدماغها.

تحرك الباص في رحلة تستمر حوالي ساعة كاملة، كنت جلساً بهدوء أراقب مايدور حولي من مناظر عامة داخل وخارج الباص، كانت تلك الإمرأة تقوم بحركات غريبة بينما يحاول الشاب تهدئة الأمر، حتى اتجاوز الموقف قمت بإخراج سماعة هاتفي ووضعتها في أذني متظاهرً بأنني أستمع إلى شيئاً ما، لم تمض فترة من الوقت حتى تجاهلت هذه الإمرأة الرجل الذي بجانبها وقامت بمنادتي، تجاهلتها، قامت بلمسي! التفت إليها، أشارت إلى هاتفي وقالت: “موسيقى، موسيقى" يبدو أنها كانت في مزاج تريد سماع الموسيقى، رددت بصوت هادئ وأنا أنظر إليها قائلا لا، ثواني قليلة حتى رأيتها نائمة، واستمرت الرحلة بسلام.

لم يكن أهل المدينة معتادون على رؤية السياح كثيراً وبسبب ذلك تراهم يتصرفون وكأن الجميع يعرف كل شيء هنا، وصل الباص إلى قرية إزبوسك، وهي وجهتي الأولى، إلا أنني لم أكن أعلم بأنه يتوجب علي النزول هنا، تحرك الباص ذاهباً إلى بيتشوري، انتبهت لذلك لاحقاً بعد تحديد موقعي من خلال خرائط جوجل.

نزلت في بلدة بيتشوري الصغيرة، محطة الباص متواضعة جداً، مطاعم بسيطة متوفر في أماكن عدة، والكثير من الباعة المتجولون، هنا أقرب نقطة للحدود مع إستونيا، سرت بشكل عشوائي حتى رأيت برج المياة الأقدم في المنطقة ومن ثم كنسية أسومبتيون.

 تجولت قليلاً بين الأسواق الشعبية المنتشرة في المنطقة قبل أن أهم بالعودة إلى محطة الباصات، في طريقي للعودة، مرت بجانبي سيارة صغيرة فيها أربعة من رجال الشرطة بزيهم الرسمي، نزل منهم رجلان وقدما نحوي وطلب أحدهم رؤية جواز سفري، أخذ يتفحص جواز السفر وابدى استغرابه الشديد من كثيرة التأشيرات الموجودة بداخله، أخذ يكرر الكلمات التي سمعتها في مطار موسكو: “كولومبيا، ڤينيزويلا، برازيل، بيرو” هو وصديقه الذي يسمع بغرابة، أتصل الرجل على مركز الشرطة وأملى عليهم رقم جوازي، انتظرنا فترة قاربت العشرون دقيقة، سألني فيها نفس الأسئلة المعتادة، طبيعة عملي ومصدر دخلي ومدة إقامتي هنا في روسيا. كان يظن الرجل أنني قد تسللت قادماً من إستونيا، سألني عن مكان إقامتي فأخبرته باسم الفندق الذي اقيم به في البسكوف، سألني كيف عرفت الوصول إلى هنا؟ قلت له أنني قدمت بواسطة الباص، طلب مني رؤية تذكرة الباص الذي احضرني من البسكوف إلى هنا، أخرجتها من جيبي وأريته، هنا نصيحة أخرى لمن يرغب بالذهاب إلى روسيا: “احتفظ دائماً بجميع الإيصالات”.

بعد مضي فترة من الوقت وبعد إجراء العديد من المكالمات سمح لي العسكري بالذهاب، عدت إلى محطة الباص واشتريت تذكرة تقلني إلى قرية بيشوري هذه المرة، كان الباص ينتظر بالخارج، بينما كنت أصور الباص حضر رجل بزي عادي، أراني بطاقته وقال لي بأنه مفتش، أخرج دفتره وبدأ بسؤالي عدة أسألة، كان الباص على وشك المغادرة إلا أن المفتش طلب منه الإنتظار، طلب مني هذا الشرطي اسم مقر السكن وأخذ رقم هاتفي أيضاً، طلب مني الإتصال به عند العودة إلى البسكوف، ومن ثم ركبت الباص.

حرصت هذه المرة على أن لا يفوتني التوقف هذه المرة، نزلت في قرية إزبوسك، كانت القرية صغيرة جداً منازل ريفية صغيرة، يوجد معطم جميل بالقرية، رأيت مجموعة من النساء العجائز يبعن السمك المجفف، رحبا بي بإبتسامة عريضة على الرغم من أنهن لم يفهمن ماقلته لهن، أتى شاب وطلب التصوير معي، فأنا بالنسبة لهم غريب من جميع النواحي، تناولت طعام الغداء في المطعم، كانت قائمة الطعام بالروسية فقط، وجميع العاملات لا يتحدث الإنجليزية، لم أعرف ماذا أطلب، استخدمت معرفتي البسيطة في القراءة لتجنب لحم الخنزير والمشروبات الكحولية، كان اختياراً موفقاً بالنهاية وكانت وجبة لذيذة، وإن لم تكن كذلك.

ذهبت بعد تناول طعام الغداء إلى القلعة، وهي تعتبر أهم مافي القرية، كان رسوم الدخول إلى القلعة مائة روبل روسي، أي حوالي سبعة ريالات، كانت القلعة أكبر مما توقعت، تجولت بها كثيراً ورأيت جمال الطبيعة خلف القلعة قبل أن أنزل وأرى البحيرة والشلالات.

كشك الباص في قرية إزبوسك

كشك الباص في قرية إزبوسك

لم أكن أعرف حينها ما اذا كان هناك باصٌ يعيدني إلى البسكوف أم لا، لكن ما كنت متأكداً منه هو أنني لن أضيع في مكان كهذا، فالناس هنا طيبون جداً، وصلت إلى منطة التجمع حيث يتوقف الباص، لم يكن هناك أحد غيري، جرت العادة أن تتوقف الحركة تماماً في السادسة أو السابعة مساءاً، الا أنني وصلت في الخامسة والنصف، مازال هناك احتمالية قدوم أي باص يأخذني إلى البسكوف، زاد تأكيدي لهذا الإحتمال عندما رأيت مجموعة من طلاب المدارس قد أتو من القرية وتوقفوا بجانبي، عرفت حينها أن هناك باصاً قادم.

حضر الباص في السادسة، ذهبت إلى السائق وتأكدت من أنه سيذهب إلى البسكوف، ركبت الباص مع طلاب المدرسة، كان معظم الطلاب ينظرون إلي ويبتسمون، كنت اتتبع مكاني بواسطة الخريطة إلى أن بادرت إحدى الطالبات وسألتني إن كنت أحتاج للمساعدة، عندما وصلت إلى البسكوف، فور وصولي توجهت إلى مكتب الحجوزات وحجزت تذكرتي إلى مدينة سمولينسك، طلبت الموظفة هذه المرة جواز السفر، فالمدينة بعيدة جداً ولابد من جواز السفر لشراء التذكرة، كانت الموظفة تواجه صعوبة في تسجيل البيانات الانجليزية المسجلة بالجواز وتحويلها إلى روسية مما أدى إلى تأخرها قليلاً، كان الطابور طويلاً خلفي ولم يضطجر أحد.

بعد أن اشتريت التذكرة خرجت عائداً إلى مقر سكني، اتصلت على الشرطي أخبرته بأنني قد وصلت، طلب مني الاتصال به عند وصولي إلى مقر سكني ففعلت، ولكنه لم يرد. في المساء استأجرت دراجة واخذت اتجول في أنحاء المدينة، رأيت أسرة مرحة سعيدة مبتسمة عند إشارة المرور، كان الأطفال ينظرون لي بدهشة واعجاب طلبا التصوير معي، ووافقت مرّحباً بذلك.

صحوت في اليوم التالي في الحادي عشر صباحاً، الليلة الأخيرة من ليالي شهر رمضان، نويت صيام هذا اليوم، كانت رحلتي إلى سمولينسك في الخامسة والنصف مساءاً، قررت الجلوس واشغال نفسي ما بين القراءة والكتابة، أخبرت الموظفة في بيوت الشباب عن موعد رحلتي وأنني سأجلس هنا حتى الخامسة، دقائق قليلة حتى حظر نفس المفتش الذي أوقفني بالأمس في بلدة بيشوري، طلب مني التحدث معه مرة أخرى، حضر إلى هنا حتى يتأكد من صلاحية إقامتي في روسيا، سألني عدة أسألة يريد التأكد منها من أنني مقيم هنا بشكل شرعي، أخبرني بعد ذلك بأنه يلاحق من يتسللون إلى روسيا بشكل غير قانوني نظراً بأنه لا يوجد حدود برية بين روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية، نبهني بأن لا أخرج من حدود الدولة سيراً على الأقدام مهما تطلب الأمر، كان الرجل طيباً في حواره وكان يؤدي عمله فحسب، أخبرني في النهاية بإعجابه عما أقوم به بترحال في الأراضي الروسية وشجعني على ذلك.

يبدو أنني أثرت إنتباه الإمرأة العاملة في بيوت الشباب، ذلك لأنه مرت ما يقارب الساعتين ولم أتناول شيئاً، أخبرتني بأنه بإمكاني شرب الشاي، شكرتها ولم أفعل، بعد دقائق، قالت لي بأنها ستطبخ لي الباستا!! كيف لي أن أشرح لها بأني صائم فهي لا تتحدث الإنجليزية وأنا لا أتحدث الروسية بطلاقة، حاولت مراراً منعها ولكني لم أستطع، فقد أصرت على أن أشاركها تناول طعام الغداء، إلا أن شاء الله وقامت الفتاة بوضع شرائح لحم النقانق مع المعكرونة، أخبرتها حينها بأنني لا أكل هذا النوع من اللحم، نجاني الله وأكملت صومي.

وصلت إلى محطة القطار في الخامسة عصراً، اشتريت بعض من المأكولات الخفيفة كي آكلها في الطريق عندما يحين موعد الإفطار، انطلق الباص في وقته المحدد، كان الباص حديثاً مقارنة ببقية الباصات التي ركبتها في مدينة البسكوف، كان مدة الرحلة ثماني ساعات حتى أصل إلي سمولينسك.

كنا نسير بطريق مليئ بمزارع الحطب كما تسمى، أشجار طويلة تقطع وتستخدم كحطب في الشتاء، كان الباص يسير بإتجاه الجنوب، لذا فإن مقدار ارتفاع الشمس يتغير كلما سرنا جنوبا، كان من المفترض أن يكون موعد أذان المغرب حوالي العاشرة والربع، إلا أنه وبسبب تغير موقعنا المستمر تغير الوقت إلى أن غابت الشمس وأنا في موقعي الحالي بتمام التاسعة والنصف مساءاً، في هذه الرحلة أكاد الجزم بأنني جربت جميع أنواع اختلاف الأوقات وتغييرها المستمر خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالصلاة.

كانت تلك الوجبة الخفيفة هي كل ماتناولته في هذا اليوم، خلال هذه الرحلة ذي الثماني ساعات لم يتوقف الباص للراحة أبداً، توقف ثلاث مرات فقط لإزال بعض الركاب فقط، كانت الرحلة متعبة جداً، وصلنا إلى سمولينسك في الواحدة صباحاً، نزلت أنا وبعض الركاب فيما أكمل الباص طريقه إلى موسكو.

عندما خرجت من محطة الباص لم أرى وجود لسيارات الأجرة أبداً، كان الوقت متأخراً وكانت المسافة إلى مقر السكن سيراً حوالي ٢٥ دقيقة، كنت محظوظاً عندما رأيت أحد المتاجر الكبيرة التي تعمل بنظام ٢٤ ساعة مفتوحة الان، دخلت المتجر واشتريت بعضاً من الفاكهة واللبن، فأنا لم آكل شيئاً مفيداً اليوم بأكمله. فور خروجي من المتجر رأيت سيارة أجرة واقفة تنتظر أي من الركاب، حمداً لله.

وصلت إلى مقر سكني، وهو فندق يدعى Hotel Usadba كان سعر الليلة حوالي ٣٠٠ ريالاً سعودي، كان الفندق رائعاً وجميلاً جداً، كنت قد نسيت أن آخذ ورقة تسجيل دائرة الهجرة من بيوت الشباب في البسكوف، وهو أمر هام قد سألتني عنه موظفة الإستقبال في الفندق، قالت لي بأنها لا يمكنها تسجيل ورقة جديدة إذ لم يكن لدي الورقة السابقة، طلبت مني الإحتفاظ بجميع أوراق التسجيل حتى لا أواجه مشاكل عند خروجي من الدولة، قامت الموظفة مشكورة بالتواصل مع بيوت الشباب الذي أرسل لها ورقة التسجيل عبر البريد الإلكتروني، ذهبت بعدها إلى النوم، وهكذا كانت آخر ليلة لي في رمضان، ليلة العيد.

استيقظت صباح اليوم  التالي في التاسعة والنصف، تناول طعام افطار فاخر في الفندق لم أكن قد تناولت مثله منذ مدة، فهذه أقل مكافئة أستطيع الحصول عليها بعد يوم الأمس، بعد الإفطار وضعت حقائبي لدى الفندق وذهبت بواسطة سيارة الأجرة إلى قرية قريبة مجاورة تدعى تلاشكينو، وهي قرية صغيرة متواضعة جداً تحتوي على بعض البحيرات.

أوصلني السائق إلى مدخل القرية فيما أكملت أنا السير علي قدمي، أثناء سيري توقف رجل كبيراً بالسن بسيارته وطلب مني الركوب لإيصالي، الأمر نفسه عندما أردت العودة إلى البسكوف، لم أكن أعرف كيف أعود إلى المدينة، فلا وجود لسيارات الأجرة هنا ولا أعلم أين موقع توقف الباص أيضاً، أثناء عودتي من القرية سيراً على قدمي توقفت سيارة بها رجل وزوجته وأوصلاني إلى أقرب نقطة يتوقف بها الباص، انتظرت ما يقارب خمس دقائق حتى أتى الباص المتجه إلى سموليسنك.

كانت مدينة سمولينسك عادية جداً ولا يوجد بها من معالم حاظرة ما يستحق أن يُزار، سوى السر القديم الذي تبقى القليل من أجزائه فقط، يوجد بهذه المدينة العديد والعديد من الحدائق، هطلت أمطار شديدة فتوقفت عند أحد المطاعم لتناول طعام الغداء، بعد ذلك أخذت أتجول بشكل عشوائي حتى توقفت عند أحد محلات القهوة، رأيت بها شباب روسيين يتحدث أحدهم الإنجليزية بشكل متوسط، قضيت معهم وقتاً رائعاً تبادلنا فيه شرب القهوة والصور، بعدها ذهبت لكتابة مذاكراتي حتى المساء قبل أن أعود إلى الفندق وأذهب إلى محطة القطار استعداداً للعودة إلى موسكو، ومن ثم الإنتقال إلى سط روسيا.