OtherBlogs

مدن لا تشبهني

بدأت حياتي في السفر متنقلا بين مدن ودول القارة الأوروبية، بداية من روما، مرورا بالبندقية وميلان وانترلاكن، وانتهاءا بميونخ الالمانية، مفتون بجمال البنيان، وجود الأرصفة، وجمال الأجواء، معجب بكل ماهو مختلف عن مدينتي التي أعيش بها،  عدت الكرة مرة أخرى، لأرى برشلونة وامستردام ولشبونة وباريس وغيرها من عواصم أوروبية كانت رغم اختلافها اللغوي والجغرافي والعرقي، الا انها كانت تتشابه في صفات المدينة، هنا بدأت فكرة التغيير.

مدن لا تشبهني

هل المدينة كما نظنها حقًا؟

لم أجد القيمة المضافة التي كنت أبحث عنها، جميع العواصم وضعت للعمل والروتين، تجذب السائح من خلال السياحة المصطنعة تارة، ومن خلال حصر التاريخ في المتاحف تارة أخرى، مدن وُضعت لتيسير أمور الحياة، مساحة، يعيش بها عشرات الملايين من البشر بجانب بعضهم البعض.

الإنسان في هذه العواصم مشغول جدًا، يومه مليئ بالمتاعب، أركب باص النقل العام، أو قطار المدينة، لأجد الانسان الضعيف المسكين في أول يومه يسير نحو عمله كالآلة، أجده في آخر يومه، منهك ومتعب، يهم بالعودة إلى مسكنه بعد يوم عمل طويل. أسير على أرصفة المدن المزينة بالإنارة الجميلة والمباني الشاهقة، أتردد بين أزقة هذه الشوارع، لأجد الناس يقضون يومهم بين الحانات محاولين تخفيف يومهم العصيب، فلا وجود لراحة البال في العاصمة الحديثة.

على العكس تماما، وعلى سبيل المثال، لا أزال أتذكر كيف أنني قضيت أيام طويلة بين قرى ريفية في الصين قرى تحيط بها المزارع من كل اتجاه، مزارع الارز والشاي، يصحو الانسان قبيل الصباح، يعمل ويجتهد إلى الظهيرة، وينام بعد مغيب الشمس في هدوء وسكينة، قرى وبلدان حجرية عتيقة، سكنتها في الصين وطاجيكستان وباكستان وكولومبيا والبيرو وبوليفيا والمكسيك واليابان وروسيا وغيرها من مختلف القارات، لمست بها وشعرت -رغم حاجز اللغة- أن الانسان يشبه الانسان الاخر، وان اختلف شكله ولونه، وأن المدن الحديثة مستنسخة، وان اختلفت ملامحها.

أصبحت عواصم العالم متشابهة، تشابه لحد الكآبة، الحياة في تلك المدن تستهلك الطاقة وتُرّهل البدن، حياة تمد الانسان بالمرض، ونقص في العمر، اناس مشغولون في كفاح يومهم، أرق، اضطراب في النوم، هواء غير نقي! زحام شديد، باص سياحي ذو طابقين يريك ما يردك منه أن تراه، أما الانسان، الروح التي قال عنها النبي أنها جنود مجندة، فهي مشغولة هنا، في المدينة.

عاشرت ابن البادية وسط صحراء المغول، وشربت الشاي مع ثلة من الباكستانيين في مرتفعات جبال القراقرم في باكستان، ورأيت الانسان الصيني في مزارع مقاطعة سيتشوان في الصين، ولمست وضوح وبراءة الياباني عندما جالسته بين قمم جبال الألب اليابانية، ولم أفهم حياة الكوريين الا عندما خالطتهم بين قرى تقع على مقربة من بوسان، ورأيت الأمان عندما ابتعدت عن عواصم أمريكا اللاتينية وتعمقت بين أريافها وقراها، هل من العدل أن نحكم على دولة ما من العاصمة؟!

الحياة كما تبدو في منغوليا

بتواضعها وبساطتها

اكتب مدونتي هذه من العاصمة الكورية سيئول، في زيارتي الثالثة لها، أتأمل أحوال من هم حولي، مدينة لم يعد يدهشني بها شيء، لا شوارعها النظيفة، ولا كثرة المقاهي العالمية، ولا حتى خطوط شبكة القطار العجيبة، أو مبانيها الشاهقة، أدقق نظري في حال الانسان هنا في سيئول، لأجده يسير في هذا الصباح الباكر ذاهب إلى عمله ولا يلقي بالا للغريب الذي يقف بجانبه

المدن، تصنع شخصية مبهمة للإنسان، تجبره على وضح الأقنعة والتقيد بها
— خالد صِدّيق