OtherBlogs

عشرة أعوام من السفر والترحال

لطالما كان السفر حلم يراودني منذ الصغر، منذ أن كنت أصحب أهلي في رحلة سفر طويلة نحو الغرب، نحو مكة، كنت دائمًا ما أجلس في الصندوق الخلفي للسيارة، أتأمل من النافذة، القمر بدرًا أحيانا، والسماء تتلألأ بالنجوم أحيانا أخرى.

كان صوت المذياع، وسط هذا الظلام، ينطق بصوت رجل عذب، هادئ، يسترسل في كلامه ويجعلك ترغب وبشدة في أن لا يتوقف، كيف لا والطريق نحو مكة، طويل جدًا، على الاقل، بالنسبة لشاب لم يتجاوز الثانية عشر من عمره.

كان هذا الرجل -واسمه محمد بن ناصر العبودي- يسافر حول العالم، يصف الزمان، والمكان، يصف الحال، ولا يعرف الاختصار في وصفه ولفظه، كان يصف البنيان، أطباع الشعوب، الحضارة، والدين، تخيل، أنه في رحلات الطريق إلى مكة، وسط هذا الظلام، استمع لتلك الوصوف، تلك الوصوف التي تعود لفترة السبعينات والثمانينات الميلادية.

من الشرق الاقصى إلى غربه، كان هذا الرحالة يرتحل ويجوب العالم، ويأتي لنا بعلم عظيم، علم لم أجد له مثيل إلى وقت كتابة نصي هذا، إن كان هنالك شخص رسخ فكرة السفر والترحال باكتشاف التاريخ والحضارات والشعوب، فلا ولن يعود الفضل لأحد بعد الله سوى لهذا الشخص، الذي رسخ وغرس فكرة السفر والارتحال في عقل طفل صغير لم يصل لمرحلة المراهقة بعد.

في سن المراهقة، وفي سنوات المرحلة الثانوية تحديدا، كنت أذهب للعمل في موسم الحج، في منى، لمساعدة الحجيج، وان اختلفت اشكالهم وألوانهم واعراقهم، فهم جميعًا ينحدرون من آدم، وآدم من تراب، جميعهم، يكسوهم اللون الابيض، كان الاختلاط مع الحجاج يرسخ في ذاكرتي فكرة السفر والترحال لاكتشاف العالم.

كبرت قليلا، وتخرجت من المرحلة الثانوية، ساقني قدر الله للعمل في احدى المقاهي المحلية، هنا ارتباط وصداقة وثيقة مع الجالية الاسيوية، لغات من الفلبين، والهند، واندنوسيا، والنيبال وبنجلادش. ديانة هندوسية وبوذية ومسيحية، ودين الاسلام، كلها صفات تؤثر على نمط حياة الانسان، فكيف إن اجتمعت تلك الصفات في مكان واحد، ولمدة تسعة ساعات في اليوم على مدار العام؟!

وجدت نفسي أشد الرحال، إلى روما وفلورانس وبيزا، فالبندقية، حضارة رومانية عريقة، لم تملئ فضولي لمعرفة الانسان، الانسان الذي كنت اسمع عنه منذ صغري، الانسان، الذي عاشرته في فترات سن المراهقة، الذي أرغب بفهمه وفهم ما يدور حوله.

حاولت المضي قدما، هنا سويسرا، فألمانيا، فإسبانيا والاندلس، البرتغال، فرنسا، بلجيكا، هولندا، مهلاً، هناك خطب ما ليس على ما يرام، لا أشعر بأني أنتمي لهذا المكان، ولا أشعر بأني حقًا سأجد ظالتي هنا.

ساقني القدر بأن ألتقي في هولندا بفتاة من البرازيل، وبإمرأة من الصين في اليوم الذي يليه، كانتا سببًا بعد الله لدخولي القارة الاسيوية من أوسع أبوابه، الصين، ودخولي أمريكا اللاتينية من أوسع أبوابه أيضًا، البرازيل.

كيف لإبن البيتزا والباستا، صديق اللغات الرومانسية، أن يتقبل ويفهم الحضارة الصينية العميقة، لا يكمن الاختلاف في اللغة فحسب، بل الاختلاف حقيقة في كل شيء، في اللون والعرق والتاريخ والحضارة والدين، الشبه الوحيد الذي وجدته آنذاك، هو أننا بشر، ولكن، لا نفهم بعضنا البعض.

هذا الاختلاف العميق، جعلني أتعمق في الثقافة الصينية جيدًا، وأحبها كثيرًا أحببتها لدرجة أن وصل الحال بأسرتي، الشك إلى اليقين، بأن قد أرغب يومًا ما، بالإرتباط والزواج بفتاة صينية، ولا أمانع.

ماذا بعد الصين؟ الفبلين، شعب الابتسامة، الشعب الذي يعود له الفضل في تعلمي اللغة الانجليزية في صغري، هنا الكثير من الأصدقاء، في الفلبين، رأيت تقبل الاختلاف في الاسرة الواحدة، في الفلبين، تعلمت رياضة الغوص، ووطدت العلاقات بين الانسان والانسان الآخر، وجدت في القارة الاسيوية، وان كانت محصورة على الصين والفلبين انذاك، إلا أنني وجدتها حياة تملؤها البهجة، بهجة لم أجدها في القارة الاوروبية.

أخذتني بوصلة المكان إلى أمريكا اللاتينية، إلى البرازيل وفنزويلا وكولومبيا والبيرو وبوليفيا والاكوادور وتشيلي والارجنتين، سكنت مع الناس، عشت معهم، تناولت طعامهم، صعدت الجبال، وزرت مزارع القهوة، أعادت لي هذه البلاد معنى تعريف الخوف ونقص الامان، وتعلمت يقينًا بأن ليس كل ما يقال حقيقة، بل ما تراه بعينك وتعيشه، هو عين الحقيقة.

كذلك الحال نفسه في أمريكا الوسطى بداية من اعجاز قناة بنما، مروراً بشعب الريقا في جامايكا، أما عزلة كوبا، فهي رائعة وكئيبة، وإن رغبت الشعور بحياة الألوان فاذهب إلى المكسيك، وسافر برًا، إلى جواتيمالا وإل سلفادور وهندوراس ونيكاراغوا، أما الطبيعة في كوستاريكا، فستبقى في ذاكراتك إلى الابد.

في أمريكا اللاتينية ستجد أسماء مدن عربية، وعملات عربية أيضًا، ستجد عادات تشبه عاداتنا، وطعاما يشبه طعامنا، وملامح تكاد لا تفرق بينها وبين الشعب العربي، أمريكا اللاتينية حياة مليئة بالألوان.

لم يكن من السهل، بعد هذا التنوع الذهاب إلى روسيا، كان لابد من اعادة تعريف معنى الابتسامة، وتقبل الآخر، واعادة دراسة التاريخ من الجديد، عدة عوالم تقع في عالم واحد، تحت سيطرة حكم سوفييتي لم يتفكك بسهولة، وعندما زال، ترى أثره باق حتى اليوم، أكبر دولة في العالم تحتاج زيارة كل مدينة بها في أربعة فصول مختلفة، لفهمها جيدًا.

رأيت بدايات طريق الحرير في الصين قبل عدة أعوام، ورأيت جزء كبير منه هنا، في دول حكمها السوفييت، دول آسيا الوسطى، دول سكنت قلبي وتمكنت منه، في الحقيقة، هي ليست دول، بل عرق تركستاني واحد، متأصل في جذوره، ومتنوع في فروعه، تلك هي تركستان، بشرقها وغربها، وإن أصبحوا يسمونها الان دول وبشكل ورسمي، إلا أنني لا أبحث عن هكذا دولة، بل، أسقي عقلي من ثقافة وعادة يتمسك اهلها على مر العصور.

في كل رحلة ازداد شغفا للقيام برحلة اخرى، وهو ما وجدته بعد ذهابي لمنغوليا، وتايوان وكوريا وهونج كونج، التأقلم مع ماهو متاح حسب الزمان والمكان، والعيش على قدر الاستطاعة، الاكتفاء والقناعة وحب الخير والعمل به، هي السمات المشتركة في تلك البلدان

ماذا عن بساطة الحياة وجمالها في باكستان، وصعوبتها في اليمن، وغلاؤها في الدول الاسكندنافية؟ ماذا عن الاجواء المتجمدة في شمال فنلندا والسويد، ماذا عن الحرارة في توربان، والرطوبة العالية في تايبيه، التأقلم مع ماهو متاح، هذا ما وجدته، وتعلمته.

أتممت في هذا الشهر تحديدًا، عشرة أعوام من قيامي برحلتي الأولى حول العالم، بدأت خطوتي الأولى شابا يافعا متعطش لرؤية العالم، ووصل بي الحال إلى طرق متفرعة، أبتغي واستقي المزيد، لم أكتفي بما رأيت، بل كان كل ما رأيته سبب للمضي قدمًا خلال عقد من الزمان.

في عشرة أعوام، تعلمت حب الانسان وتقبل الاخر، في عشرة أعوام، رأيت التشابه والاختلاف، في عشرة أعوام تعلمت التاريخ جيدًا، وفهمت الحضارة والدين، وعلمت بأن الأصل في الإنسان هو الإبتسامة والطيبة الحسنة، في عشرة أعوام تعلمت اللغات، وتمنيت بأن يكون لي عمرًا اخر أتعلم منه المزيد من اللغات، أي باب من تلك الابواب ستفتح لي، لو استطعت الحديث بالفارسية والروسية والاسبانية والصينية والأردو؟!

أجد نفسي الان، أؤمن وبشدة، بأن من يسافر وحيدًا هو بالتأكيد ليس بوحيد، بل هو أكثر انسان اجتماعي على هذا الكوكب، من يخرج من منزله وحيدًا، فهو في الغالب يريد الانغماس مع عالم آخر، تخيل معي، كيف ستكون طريقة تفكيرك وحكمك على أمور الحياة، إن كان ذلك ما تفعله طيلة عقد من الزمن؟

ماذا عن المستقبل، أهناك عشرة أعوام أخرى؟ هل سفري وترحالي يحسب بتلك الاعوام؟ أم أنه سيستمر طالما حييت؟ بودي أن أكون ذو سبعة أرواح، أفني كل روح منها في الترحال، لعلي حينها، أستطيع فهم الانسان، والعالم.

خالد صديق

٢٠ يونيو ٢٠٢٢