وداعًا 2020
للمرة الأولى منذ أن أتيت إلى هذا العالم، وتحديدًا شتاء عام ١٩٨٩م، لم أرى العالم يتحد سويًا لمواجهة التحديات، دون الالتفات للمشاكل السياسية والاقتصادية مثل هذا العام على وجه التحديد. من خلال تنقلي بين دولة وأخرى، كنت دائمًا ما اسمع عن التنافر والانحياز في الكثير من الملفات التي تخص وتختلف من دولة لأخرى، حتى على مستوى الفرد، بين المواطنين والمقيمين البسطاء، كنت دائمًا ما اسمع أناس بلد يتحدثون عن أناس من بلد آخر، بطريقة سواءا كانت ايجابية او سلبية، فطبيعة البشر بمجملهم مختلفون.
خلال تنقلي بين دول أمريكا الجنوبية، كنت أرى سكان بوليفيا يتذمرون من سكان دولة تشيلي، وكنت اسمع من البرازيليون يتحدثون بطريقة وان كانت على سبيل المزاح عن سكان الأرجنتين، وهم كلهم في قارة واحدة، أمريكا الجنوبية.
كحال الأمر ذاته في آسيا، لا أرى الاتفاق التام بين الصين واليابان وكوريا على وجه التحديد، أما في العالم العربي، فحدث ولا حرج.
إذن مالذي يحدث في عام ٢٠٢٠م؟ ولم كل هذه المقدمة الطويلة؟
ما ادهشني حقًا رغم كل هذه الاختلافات البشرية، أنني رأيت أصدقائي من مختلف بلدان العالم جميعهم متحدين صفًا واحدًا، متحدين بطريقة لم أرى مثلها على الاطلاق، يقفون مجتمعين ضد عدو لا يرى بالعين المجردة، كان وباء فيروس كورونا الذي انتشر في نهاية عام ٢٠١٩ كفيلًا بأن يجعل عام ٢٠٢٠ مميزًا وفريدًا من نوعه على الاطلاق.
أصبح الكل فجأة يهتم ببعضه البعض، لا يهم الآن اختلاف العرق، ولا اختلاف اللون أو الديانة أو الحالة الاجتماعية أو حتى الميول الشخصية، أصبح الجميع يهتم لشيء واحد فقط، حياة الانسان.
على الصعيد الشخصي، لم أكن أتوقع أن أشهد فترة كهذه في حياتي، وإن كنت أرى منها فوائد عدة على الرغم من كثرة أضرارها. لم أكن لأعتاد المكوث في العاصمة الرياض أشهر طويلة دون سفر، لطالما ارتبط نمط حياتي بالتعدد الثقافي المجتمعي المرتبط بالانسان، وهي صفات لا تتحقق دون السفر، والذي أصبح عائق أمامي هذا العام.
كانت أشهر هذه السنة غريبة على الاطلاق، سافرت في شهر يناير إلى مدينة القطيف في المنطقة الشرقية، وهي مدينة ذات أغلبية سكانية من الأحبة المواطنين الذي ينتمون للمذهب الإسلامي الشيعي، وهو مذهب لديه الكثير من الاهتمامات المتعلقة بالسفر إلى دول كالعراق وإيران، لذا كانت فرصة جميلة بالنسبة لي للتعرف على هذه الثقافة والتي قد تكون مختلفة عني كثيرًا، كانت تلك الرحلة أجمل رحلة لي في عام ٢٠٢٠م.
أما في شهر فبراير فذهبت إلى الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا إلى إمارة رأس الخيمة، مسقط رأس أحد الأصدقاء المقربين، إقامة هادئة بعيدًا عن ضجيج المدينة، لم أكن أعلم فعليًا تسارع وتيرة الأمور حينها، ولم أكن أعلم أيضًا أنها ستكون آخر رحلة دولية هذا العام.
بدأ الاغلاق التام في شهر مارس، ومن ثم الحظر الجزئي ثم الكلي، أجبر الجميع ليس على عدم الخروج من المدينة فحسب، بل على عدم الخروج من منازلهم، وهنا حان الوقت للخلوة، خلوة النفس والروح والجسد.
في الأعوام السابقة، وبسبب نمط حياتي والشهرة الإجتماعية التي تكونت بسبب برامج التواصل الاجتماعي والمدونات والسفر المستمر، كنت كثير الحركة في مدينة الرياض حيث أقيم، كان يومي ممتلئ بأكمله من صباحي إلى آخر الليل، لذا كنت أعيش تحت ضغط مجتمعي مستمر، أما عن عطلة نهاية الاسبوع فقد كنت أهرب من المدينة، إما إلى الغوص في البحر الأحمر، أو إلى السفر إلى أحد دول الخليج فقط للابتعاد على الواجهة الاجتماعية والتي كنت مسؤولا عنها مسؤولية تامة شئت أم أبيت. لذا فقد كنت أحرص على أن أقضي نهاية أسبوع واحدة (جمعة وسبت) في كل شهر، في المنزل ولا أخرج منه تمامًا، أقضي يومي في غرفتي ما بين قراءة الكتب وكتابة المدونات ومشاهدة الأفلام والتخطيط لبعض الرحلات.
لذا لم يكن أمر الحجر المنزلي بالنسبة لي أمر سيء على الاطلاق، فقد كنت احجر نفسي بشكل شهري طوعا من نفسي، وعلى الرغم من تذمر الناس وعدم اعتيادهم على الامر في البداية، بسبب عدم تجهيز منازلهم بأن تكون منزل بما تعنيه الكلمة، أو بسبب الاعتياد على كثرة الحركة داخل المدينة، كنت استمتع بيومي في غرفتي كثيرًا، إلا أنها لم تكن على أغلب الاحيان متعة كاملة، فبسبب عملي في أحد المستشفيات، كانت معظم أيامي عصيبة مليئة بضغوط العمل والمسؤوليات الصحية التي كانت في قمة ذروتها تلك الايام، كنت اصحو فجر كل يوم على أخبار عاجلة من وكالة الأنباء السعودية، تسارع غريب في تغيير مجريات الامور، وجاهزية رائعة ومميزة من المملكة العربية السعودية من بين دول العالم بأسره، كانت أشهر مليئة بالمفاجئات. هكذا قضيت كل من أشهر مارس، أبريل، ومايو.
ثم أتى شهر الخير، رمضان المبارك، لم يكن بالأمر السهل خصوصا بالنسبة لمجتمع يعيش حياة مترابطة اجتماعيًا أن يكون وحيدًا دون أي اتصال اجتماعي في شهر الخير، فضلًا عن المبادرة بالعبادات التي تزدهر وتزداد في هذا الشهر الفضيل، ما بين الصيام وقيام الليل، كان رمضان هذا العام هادئ جدًا، كنت أخرج من المنزل في فترة حظر التجول لإيصال والدتي إلى العمل في السادسة مساءا بعد صلاة المغرب، فقد كنت أمتلك تصريحًا رسميًا يسمح لي بإيصال والدتي إلى العمل لإتمام مهمتها الانسانية، كنت أرى الشوارع خالية من كل شيء، كانت مدينة الرياض، والذي سكنها أكثر من ٨ ملايين انسان، وكأنها مهجورة في أكثر الأشهر حركة وازدحام، لم يكن الشعور جيدًا على الاطلاق، ولكن مصلحة الانسان فوق كل شيء.
كنت أعمل في المستشفى ساعات طويلة، طويلة جدًا، في المستشفى أحياناً، وفي المنزل احيانا اخرى، وكنت أجتمع عبر برامج اللقاءات المرئية مع الاصدقاء في جميع دول العالم، كان شهرًا مميزًا بحق.
أتى عيد الفطر، العيد الذي لم احضره في الرياض منذ اكثر من ٩ أعوام بسبب سفري المستمر في اجازة العيد، كان العيد هذه العام في المنزل، لا شك وأنها ردة فعل عكسية تصيب الانسان بالإحباط أحيانا، أما بالنسبة لي، فكان عيدي في العمل، عملت لخدمة المريض بالصورة التي الهمتني الكثير من الصبر وكثرة
التأمل.
بدأت أشهر الصيف، لم نشعر بتلك الحرارة التي كنا نشعر بها كل سنة، والسبب بكل تأكيد بقاؤنا في المنازل الباردة، بدأت حينها الحياة تعود بشكل تدريجي وبقيود عالية جدًا، تأثرت الحياة الاقتصادي كثيرًا، دعمت الحكومة أصحاب المشاريع المتوسطة والصغيرة، حصلت الكثير من الاستثناءات في مجال الوظيفة والتعليم والتجارة وغيره.
أما عن اليوم الوطني في شهر سبتمبر، فقد احتفل الناس في منازلهم، يبقى حب الوطن في قلوب البشر وان اختلفت المسافات، ثم أتت اجازة عيد الحج، وهي الاجازة الاولى التي وجدت فيها فرصة للحركة والخروج من المدينة التي أصبحت مسموحا بها بعد السيطرة التامة على انتشار المرض بين الناس.
سرت بسيارتي إلى المدينة المنورة، كانت المدينة النبوية والتي اعتدت على زيارتها أكثر من سبعة مرات سنويًا، خالية هادئة دون سياح ولا زوار، على عكس عادتها، كانت تلك المرة الاولى التي أرى بها الحرم النبوي بهذا المنظر، شعرت حينها بحزن شديد، شديد للغاية، كنت احتاج وبشدة بعد هذه الأشهر العصيبة أن أكون بجوار بيت النبي، فوجودي بجانبه يشعرني بكثير من السكينة والطمأنينة. ذهبت بعدها إلى ينبع، عاصمة الغوص في مياه البحر الأحمر، أردت افراغ الكثير من المشاعر تحت الماء، أذكر أني أخبرت أحد زملائي في العمل قائلا: لا يوجد كورونا تحت الماء.
عدت بعدها إلى الرياض، وبدأت التجهيز للسفر لأول مرة إلى جنوب المملكة العربية السعودية، أردت الابتعاد عن المنزل الذي اقمت به أشهر طويلة دون الخروج منه، لذا فضلت التخييم في أرض الله الواسعة، حملت زادي ومتاعي وتوجهت إلى عسير، حيث السودة والحبلة ورجال ألمع صعودًا إلى النماص وتنومة، كانت الأجواء الباردة والأمطار الغزيرة كفيلة بأن تثير كامل يومي في هذه الرحلة.
تحسنت الحياة كثيرة في شهر اغسطس، كان قرار الدراسة عن بعد أمرً مميزًا هذا العام، انتشر مفهوم العمل والدراسة عن بعد، وهي أحد الامور التي كنت أتمنى تنفيذها منذ سنوات طويلة، حتى يمكنني السفر والعمل من أي مكان في العالم.
كان حج هذا العام محدودًا للغاية، لم يكن بالأمر السهل ورؤية منى ومزدلفة وعرفات والحرم المكي بهذي الاعداد القليلة على الاطلاق.
عادت الحياة وبحذر شديد في شهر أكتوبر، بدأ الناس يخرجون في كل مكان، انتشرت اخبار وجود لقاحات في مراحلها الاخيرة، والتي ستساهم في رجوع الناس لحياتهم الطبيعية وبشكل تدريجي.
نحن الان في شهر ديسمبر، آخر أشهر السنة، كانت سنة سريعة، سريعة للغاية، مرت بأحداث لم تخطر على بال بشر، كانت أول مرة أسمع بها عبارة "صلوا في بيوتكم،، صلوا في رحالكم" وكانت أول مرة أرى بها مطارات تغلق، أحياء تقفل، مدن بأكملها تقفل بالكامل، ضد عدو لا يرى بالعين المجردة.
لهذه السنة محاسن كثيرة، على الاقل بالنسبة لي، قرأت ما يزيد عن خمسة عشر كتابًا، شاهدت الكثير من الأفلام، سافرت بين مختلف مناطق المملكة، اقتربت من نفسي كثيرًا، والأهم من هذا كله، هو بقائي بصحة وعافية من كل شر وبلاء.
لا أعلم كيف ستكون مشاعري عندما أعود إلى هذه المقالة بعد عشرة أعوام، أو عشرون عامًا، عندما أقرأ تفاصيل هذه العام المختصرة، التي ستعيد بي شريط الذكريات لأحد أكثر الاعوام التي أعادت مفهوم العيش في العالم بأكمله.