OtherBlogs

لماذا أسافر؟

من يعرفني جيدًا يدرك بأني عشت مراحل طفولتي ومراهقتي في المنزل دائمًا، لم أكن ممن يحبون الخروج من المنزل والإختلاط مع الناس على الإطلاق، كانت حياتي تتمحور بين البيت والمدرسة وحلقات التحفيظ، ولا شيء أكثر من ذلك سوى مشاهدة أفلام الكرتون، وتصفح الانترنت في عطلة نهاية الأسبوع. فكيف انتهى بي الحال أجوب الأرض بشرقها وغربها؟

إسمي خالد صِدّيق، أحب السفر كثيرًا، أصبح السفر جزء لا يتجزأ من نمط حياتي اليومي، أسافر دائمًا، بين الكتب والمدونات وأدب الرحلات، وزيارة الدول والانغماس في مجتمعها والتحدث مع أهلها، أجرب الطعام المحلي، وأركب وسائل النقل العام، وأسكن مع الناس، وأعيش كما يعيشون في بلدانهم، أبحث في رحلاتي دائمًا عن تجربة الإنسان، التجربة المرتبطة في الزمان والمكان.

لنعود بضعة أعوام إلى الوراء، وتحديدا في صيف عام ٢٠٠٦م عندما فتحت لي الحياة أبوابها بعد تخرجي من الثانوية العامة، الكثير من الفرص والتجارب التي أجهلها، استغليت الاجازة الصيفية بالعمل في احدى المقاهي في مدينة الرياض، في فترة زمنية لم يعتاد بها السكان المحليون على رؤية السعوديين في المقاهي والمطاعم. كنت الشاب العربي الوحيد بين ستة من الجالية الآسيوية، وبسبب ساعات العمل الطويلة أصبحوا هم أصدقائي الدائمين، الأصدقاء الذين أقضي معهم وقتًا أكثر من غيرهم، تعمقت علاقتي بهم كثيرًا، ازداد فضولي بمعرفة تفاصيل حياتهم في بلدانهم، وهنا بدأت رغبة السفر ورؤية ما يحدث وكيف يعيش الإنسان في العالم الخارجي.

زرت روما وفلورنس والبندقية، ومالقا وغرناطة وقرطبة، مرورًا بدلفت ولاهاي، لأجد نفسي بعدها بين أعماق جمهورية الصين الشعبية، الإمبراطورية التي تركت في نفسي أكثر كبيرًا جعلني أتعلم اللغة الصينية منذ عام ٢٠١٤م وحتى الآن.

في السفر أمر سحري يزيدك شغفًا وتعطشًا كلما زرت دولة ازددت فضولا لزيارة دولة أخرى، وهو ما جعلني انغمس دون سابق تنبيه بين دول أمريكا اللاتينية، بين البرازيل والبيرو وبوليفيا وكولومبيا، وجامايكا وكوبا ونيكاراغوا، والكثير الكثير، ثقافة اسبانية برتغالية وبريطانية، خليط بين الألوان والأعراق، مزيج من التانغو والسالسا والسامبا، أما عن الطعام، هنا يأتي دور طريق الحرير.

طريق طويل، طويل جدًا، حرصت على تتبعه بدقة، بين مدن الصين، وثقافة آسيا الوسطى، الثقافة التركستانية التي رأيتها وترعرعت عليها منذ صغري في مدن الحجاز -مسقط رأسي- أجد نفسي بين مدنها وضواحيها، بين بخارى وسمرقند وخوارزم، فضلا عن العاصمة السوفييتية طشقند، لأجد مزيج بين عرق الفرس والترك، انتقالا إلى الطاجيك، حيث المزيج الغريب بين الأحرف الروسية واللغة الفارسية، نزولاً إلى جبال البامير، الجبال الشاهقة والتي يسكن بينها أناس يتحدثون لغة البامير، لغة الجبال.

هناك الكثير ليقال، والكثير من التجارب التي جعلت مني شخصًا كلما خرج من منزله لإحدى هذه البلدان، عاد ولو بعد حين، شخصًا اخر متعلمًا ومعترّفًا على حال الإنسان.
تعلمت الصينية والإسبانية والروسية والقليل من البرتغالية، زرت الكثير من الدول،  لا أحصي عددها، ولا أتمنى عدها في يوم من الأيام، لا أعلم حقًا كم دولة زرت حتى الآن، ولكنني أعلم يقينًا أنني رأيت وعشت بين شعوب أرجاء الأرض، تركوا في نفسي تجربة لا تنسى على الإطلاق.

تتمكن تجربة السفر بالنسبة لي عبر مخالطة السكان المحليين، العيش معهم، تعلم لغاتهم وعاداتهم، تناول طعامهم، والتعرف على أديانهم، والإطلاع على الثقافة المحلية المتمثلة بالعادات والتقاليد والصفات الحسنة الأخرى. 

حضرت زفاف تقليدي في باكستان، وآخر في قرية صينية، وركبت قطارا سيبيري عمره أكثر من مئة عام في روسيا. عشت في خيام المغول، وغصت في بحار الفلبين، سمعت صوت الغابة في الأمازون، وقطفت بذور القهوة في كولومبيا، ومشيت فوق جبال الإنديز في البيرو. رأيت الشفق القطبي في سماء لاب لاند في فنلندا، ورأيت المجرة بأبهى صورة لها في صحراء بوليفيا الملحية. شربت الشاي المالح في بدخشان، وتناولت ما يشبه الموز المقلي في الإكوادور، واستمتعت كثيرا بفطيرة التابيوكا في البرازيل، ولحم الباكا في البيرو، وتناولت مختلف أنواع الطعام في الصين، وتذوقت حرارة الطعام في باكستان.

وأخيرًا.. سافر لاكتشاف نفسك قبل اكتشاف العالم.