أمريكا اللاتينية

بونو، بحيرة تيتيكاكا والقصب العائم

في صباح الثلاثاء 11 اغسطس 2015، وتحديداً من ليما، عاصمة جمهورية البيرو، وبعد إفطار خفيف خرجت مبكراً منطلقاً إلى مطار العاصمة الدولي، كنت أتأمل المدينة الساحلية المكتظة بالسيارات كلٌ ذاهبٌ إلى عمله، كان الجو شبه ماطراً، وصلت إلى المطار في تمام السابعة والنصف صباحاً، رحلة تسمتر ساعة ونصف حتى أصل إلى بونو وبحيرة تيتيكاكا.

تقع بحيرة تيتيكيكا العميقة (وهي كلمة مستمدة من لغة الكاتشوا) في أحد قمم جبال الأنديز على إرتفاع يبلغ ٣٩٥٠ متر فوق سطح البحر حيث درجة الحرارة المنخفضة طول العام، إذ بلغت أعلى درجة حرارة سجلت بمواسم الصيف ١٨ درجة مئوية فقط، بينما سُجلت أقل درجات الحرارة شتاءاً ٨ درجات تحت الصفر، تعتبر تيتيكاكا البحيرة الأكبر في أمريكا اللاتينية الفاصلة بين كل من دولتي البيرو وبوليڤيا، حيث يشكل الجزء الغربي من البحرية جزءاً خاصاً بدولة البيرو الواقع على مدينة بونو، بينما يشكل الجزء الشرقي جزءاً خاصاً بدولية بوليڤيا الواقعة على مدينة لاباز.

بحيرة بونو الواقعة بين كل من البيرو وبوليفيا

بحيرة بونو الواقعة بين كل من البيرو وبوليفيا

تحتوي بحيرة تيتيكاكا على عدة جزر صغيرة منها جزيرة أوروس، أمانتاني، تكيل، حيث تتكون جزيرة أوروس من مجموعة من القصب العائم (وهو قصب ينتشر في المياه الضحلة من البحيرة يدعى توتورا) تبنى المنازل من هذا القصب وقليل من الخشب في الأبواب والنوافذ، كانت هذه الجزيرة هي مقصدي لمدة يومين في هذه البحيرة دون أن تتاح لي زيارة الجزر الأخرى لضيق الوقت، وبنظري أن زيارة جزيرة كهذه هو الخيار الأنسب، خصوصاً بعد رؤيتي لثقافات مختلفة في البيرو.

عند وصولي لمطار ليما الدولي، كنت أعلم حينها أنه سيكون أخر مطار دولي في البيرو أقلع من خلاله، لذا وكعادتي في كل دولة لابد من الحصول على أشياء بسيطة تذكرني بروعة ومشاق هذه الدولة أو المدينة، على أن لا تكون حاجيات تشغل حيز كبير في الحقيبة، وقع نصيبي على بعض من الموسيقى البيرية، كنت أحب موسيقى البيرو كثيراً، أشتريت أيضاً قميصاً أحمر اللون يحمل شعار دولة البيرو السياحي المميز. عند خروجي من الفندق لم أكن قد تناولت طعام الإفطار بشكل كافي، لا شيء أفضل من القهوة السوداء والدونات كأسرع شيئين أستطيع تناولهما الآن.

عند وصولي لأحد محلات (دانكن دونات) الشهيرة والمتواجدة بالمطار، طلبت حينها قهوة سواء مع قطعتين من دونات الشوكولاه، بعد أن دفعت المبلغ المطلوب قدمت لي الموظفة قهوة بكوب بلا غطاء، لم يكن هنالك غطاء متوفر بالمحل، لن أفرط فيما دفعته، وضعت كل شيء بحقيبتي الصغيرة، حملت قهوتي بيدي ذاهباً إلى نقاط تفتيش وفحص المسافرين متجاهلاً تماماً ما أحمله بيدي، تشير سياسة وقوانين أغلب المطارات بأنه يمنع تجاوز نقاط التفتيش أن كنت تحمل أية سوائل كانت، تجاهلت الأمر تماماً خصوصاً بأنني لم أرى إرشادات تدل على ذلك بالمطار، كنت أمشي بوسط الزحام حريصٌ كل الحرص على قهوتي، لم يخاطبني أحد، تجاوزت نقاط التفتيش جميعها، كنت أضع قهوتي وأرفعها عندما أضطررت لإزالة جميع المواد المعدنية العالقة بملابسي و حقيبتي، تجاوزت كل شيء ذاهباً إلى بوابة المغادرة، إلى أن دخلت إلى الطائرة متناولاً إفطاري هناك!

عند الخروج من مطار بونو كان هذا المشهد

عند الخروج من مطار بونو كان هذا المشهد

أقلعت طائرة خطوط أفيانكا بتمام التاسعة وخمس وخمسون دقيقة صباحاً متوجهة إلى الجزء الجنوب الشرقي من البيرو، رحلة خفيفة وسريعة إلى أن وصلت مطار مدينة هوليانا القريب من مدينة بونو في تمام الحادي عشر وخمس وثلاثون دقيقة صباحاً، كان هناك من ينتظرني في المطار ليأخذني في جولة قبل الذهاب إلى حيث سأبيت الليلة.

لم يكن مطار هوليانا يحتوي على أية معالم تذكر، خرجت من المطار منتظراً من هو قادم لإستقبالي، كان الجو -رغم أشعة الشمس- بارداً بعض الشيء، المنازل ذو الطوب الأحمر هو المنظر السائد بالمكان، حضر إلي رجل يعمل بنفس الفندق الذي سأنزل به، أسمه مارك، يتحدث اللغة الإنجليزية بشكل جميل، أخذني بسيارته قاصدين زيارة بعض المعالم قبل أن نذهب بالنهاية إلى البحيرة، أذكر حين تواصلي مع الفندق أنني تلقيت تحذيراً شديد اللهجة بضرورة عدم التعامل مع السائقين الغير معتمدين في مطار هوليانا، أُخبرت حينها أنني قد أتلقى عروضاً قليلة التكلفة لكن في النهاية لن أصل إلى وجهتي المقصودة، لذا كان من الأفضل ترتيب كل شيء مع الفندق نفسه.

سرنا في طريق إستغرق حوالي عشرون دقيقة تحدثنا فيها كثيراً عن المدينة وتاريخها، حتى وصلنا ببادئ الأمر إلى منطقة تدعى سيلوستانيس، وهي عبارة عن أثر لمقابر لم يبقى منها شيئاً تقريباً، تعود إلى زمن ما قبل الإنكا، حيث تكون هذه المقابر فوق سطح الأرض داخل أبراج ضخمة مبنية بدقة وغرابة، كان الإرتفاع آنذاك يقترب من ٤٠٠٠م، أحسست ببعض الضيق في التنفس إلا أنني كنت أسير بهدوء وتنفس عميق، أستغرب الرجل الذي معي كثيراً مقدرة تحملي على هذا الكم من الارتفاع، لم يعلم مالذي واجهته قبل مجيئي إلى هنا، قضينا بعض الوقت أيضاً بجانب بحيرة تدعى أومايو، وهي بحيرة عمقها ٢٥م يمنع فيها السير بالقوارب منعاً باتاً.

توجهنا بعد ذلك إلى بعض البيوت الحجرية الريفية الصغيرة المنتشرة على الطريق، كنت أرى بعض النساء يعملن في الحرف اليدوية بينما يجتمع البعض الآخر في ساحة مجاورة يسيرون بطريقة دائرة مشكلين بذلك رقصاً تحت أنغام موسيقية بيرية جميلة، تناولت العديد من الأكلات المحلية آنذاك، تناولت بطاطا بيضاء، نعم بيضاء، ومشوية أيضاً، وأنواع أخرى من البطاطا والجبنة المحلية أيضاً، كان الطعام شهياً وكنت جائعاً لدرجة أنني لم أضع بعين الإعتبار مستوى النظافة المطلوبة، استطعت إقناع نفسي سريعاً بأنني اكتسبت ما يكفي من مناعة كي لا أمرض من الطعام المحلي! رأيت بعد ذلك حيوان الواناكو النادر، وهو حيوان يتواجد في دولة البيرو وبوليڤيا وتشيلي، وهو شبيه إلى حد كبير بحيوان اللاما، بعد ذلك سرنا مباشرة نحو البحيرة متجهين إلى الفندق.

ودعت السيد المارك عند المنفذ المائي لمدينة بونو، توجهت بعدها إلى القارب الذي كان بإنتظاري على البحيرة للذهاب إلى الفندق، كان الجو حينها غائم بارد جداً، أخذني مالك الفندق برفقة أطفاله وسيرنا مسافة تقارب الخمس دقائق كنت أرى خلالها أن كل شيء حولي مبني من القصب والقصب فقط، كان المنظر بالنسبة لي غريب ونادر، كنا متوجهين إلى فندق يدعى Uros Aruma Uro وهو فندق متواضع جميل تملكه عائلة تتكون من أم و أب وطفلين صغيرين، كان الأمر أشبه بالسكن مع عائلة محلية بحته، أخذني الأب إلى غرفتي للراحة قليلاً ومن ثم تناول وجبة الغداء.

خلال تجولي بالمنزل المتواضع، كنت أرى في صالة الطعام الرئيسية زاوية مخصصة كسجل للزوار بجميع اللغات، لم أرى ما يثبت أن هناك زائراً سعودياً أو خليجياً أتي قبلي إلى هذا المكان، كان الجميع يوثق زيارته ببعض العملات المحلية مع بعض العبارات المكتوبة بلغته الأم، قررت حينها أن لا أغادر هذا المكان قبل ترك بصمة سعودية لي ولمن بعدي، كانت وجبة الغداء ساخنة ولذيذة، تناولت سمك السلمون المرقط، جزراً مسلوقاً، نوعان مختلفان من البطاطا أحدهما حالي المذاق، مع شراب اليانسون الساخن، أذكر حينها أن درجة الحرارة كانت ثلاث درجات مئوية فقط، قضيت الوقت أتجول بالمكان متعرفاً على جميع سكان المنزل إلى مغيب الشمس.

في صباح اليوم التالي، وفي تمام السادسة صباحاً، كانت درجة الحرارة آنذاك ١ درجة مئوية فقط، تناولنا طعام الإفطار ومن ثم خرجنا جميعاً في جولة بالقارب لصيد بعض الأسماك ورؤية القصب الذي من خلال يتم بناء وصنع كل شيء، كانوا لا يقتلعون القصب من جذوره أبداً حتى ينبت مرة أخرى سريعاً، قطع لنا مالك المنزل بعض القصب، رأينا خلالها أنه بإستطاعتنا تناول الجزء السفلي منه فهو حلو المذاق قليلاً، بينما يستخدم الجزء العلوي للأعمال الإنشائية العامة، تلى ذلك زيارة جزر صغيرة أخرى، دخلت منازلهم، استطعت تأمت حياتهم العامة، كانت العوائل تأخذ القليل من مياه البحيرة لتقوم بغسل ملابسها يدوياً، المنازل صغيرة وقريبة من بضعها البعض مشكلة بذلك ألفة حميمية كثيراً ما افتقدناها في مددنا الصاخبة، عدنا بعد ذلك إلى المنزل إستعداداً لتسجيل الخروج، وبالطبع، لم أنسى كتابة رسالة شكر باللغة العربية ووضع عملة محلية مشكلاً بذلك بصمة سعودية أولى.