خالد صديق، مصور، رحالة

أمريكا اللاتينية

الحج إلى ماتشو بيتشو

اليوم الأول

استيقظت في تمام السادسة والنصف، إفطار سريع وإستعداد تام لبداية الترحال، أمامنا رحلة تمتد لثلاثة أيام كاملة نقطع فيها مسافة ٥٦ كم والتي تعتبر أطول من رحلة الماتشو بيتشو الأساسية، بهمة ونشاط عاليان وصلنا إلى نقطة البداية في تمام السابعة وخمس واربعون دقيقة، كان هناك ثلاث رجال يحملون جميع مستلزمات الرحلة من خيام ومعدات للطبخ ومواد غذائية، كان معهم ستة خيول وحمار واحد، على أن يرافقوننا معظم الرحلة، سلمناهم كل مالدينا من حقائب واحتفظنا بحقائب صغيرة للظهر

بدأنا بالسير في تمام الثامنة وبمجرد تحركنا إنقطع الإرسال تماماً، سرنا لمدة خمس ساعات متواصلة رأينا خلالها العديد من الشلالات والمناظر الطبيعية الخلابة جداً، كان الجو في الصباح حاراً قليلاً، كنا نوقف كثيراً للتصوير، توقفنا للراحة لمدة نصف ساعة تناولنا بها بعض الفاكهة ومن ثم بدأت بالصعود الحاد بين ممرات ضيقة قليلاً، كنا نسير على الصخور ونتجاوز المياه الجارية، كنا نرى العديد من النباتات وبعض الحشرات إلى أن وصلنا في تمام الواحدة ظهراً إلى نقطة الراحة الأولى للتناول طعام الغداء، كنا قد وصلنا حينها إلى ارتفاع ٣٦٢٢ م، ارتحنا جميعاً وشربنا خلالها شراب الكوكا الساخن فيما يم تحضير الغداء

لم أكن أتوقع رؤية السكان الأصليون من متحدثي لغة الكاتشوا يعيشون على هذه المرتفعات

لم أكن أتوقع رؤية السكان الأصليون من متحدثي لغة الكاتشوا يعيشون على هذه المرتفعات

سرنا بعد تناول الغداء مجدداً بطريق أغلبه صعود، بدأنا نحس جميعاً ببرودة الجو، تجاوزت الساعة الرابعة عصراً، وصلنا حينها على قمة جبل عال بمنظر مسطح بعيد المدى، كان الإرتفاع حينها تجاوز الـ ٣٩٠٠م فيما كان صديقي دانييل يشعر ببعض التعب، كنا كل من مونيكا وأنا بخير وعلى أتم حال، قبيل غروب الشمس بقليل، كنا قد وصلنا حينها إلى إرتفاع عالٍ جداً، إرتفاع بلغ ٤١٠٠م فوق سطح البحر، بدأت حينها الإحساس ببعض الدوار، إلى أن وصلت لمرحلة لم أستطع فيها السير، جلست على أحد الصخور طالباً بعض الراحة، أذكر حينها أنني وصلت إلى مرحلة لم أستطع تمييز ما يدور حولي جيداً، اخرج صديقنا المسؤول عن الرحلة انبوب اكسجين من حقيبته لأتنفسها قليلاً، تنفست منها قليلاً وتظاهرت بأنني أحسن حالاً على الرغم أنني لم أشعر بأي تحسن، وقفت مثاقلاً متجاهلاً أنني على هذا الإرتفاع العالي، ما يميز رحلة الماتشو بيتشو العادية أنهم لا يصلون إلى هذا الإرتفاع أبداً، أكملت السير بجو بارد جداً وبصبر إلى أن وصلنا إلى منطقة البيت

وصلنا في تمام الخامسة والنصف مساءاً إلى نقطة المبيت، كان الإرتفاع حينها قد بلغ ذروته، ٤٢٠٠م فوق سطح البحر، كنت أرتجف، أرتجف دون وعي، الجو بارد، جائع، الكثير من دوار الرأس والصداع المستمر، دخلت إلى خيمتي لأرتاح قليلاً، أيقذني مشرف الرحلة في تمام السابعة مساءاً لتناول العشاء، كنت قد أحسست حينها ببعض التحسن، إلى أنه مازال هناك بعض من صداء الرأس، شربنا بداية شراب الكوكا الساخن، ومن ثم تناولنا طعام العشاء، كان العشاء عبارة عن سمك سلمون المرقط من النهر، أذكر أنني كنت أتناول العشاء حينها بشراهة كبيراً، هنالك أمور لن يتعلمها المرء إلا في سفره، أهمها الإحساس بالقيمة الغذائية بجمع ما يراه ويتناوله أمامه، عدت بعد العشاء إلى خيمتي، كنت لا أستطيع السير وحدي، كنت أسير برفقة مشرف الرحلة حتى أستطيع عبور الممر المائي، كانت الساعة حينها تمام الثامنة مساءاً، لا أعلم كم كانت درجة الحرارة، لكن ما كنت متأكد منه أننا على جبال فيرونيكا الشاهقة وعلى ضفاف بحيرة انكاشوتشا المتجمدة، وعلى بعد ٤٠٠ متر فقط عن أعلى قمة في سلسلة جبال الأنديز والبيرو، كنت أرى الثلج الأبيض أمام عيني، على الرغم من أني معتاد على البرد عموماً إلى أن ما حصل آن ذاك كان يفوق كل المعايير، لم يكن هنالك إرسال حتى أستطيع معرفة درجة الحرارة، لكن أكاد أجزم أنها تتعدى خمسة عشر درجة مئوية تحت الصفر، قبل أن أدخل إلى خيمتي برفقة والي، رأيت النجوم، وقفت فجأة متناسياً كل ما أمر به متأملاً حال النجوم، لم ولن أرى مثل هذا المنظر في حياتي، فأنا في الشق الثاني من الأرض، على إرتفاع عالٍ جداً، وبعيد عن أي ضوء، كنت ارى النجوم وأسبح الله وأحمده ناسياً كل شيء، تمنيت حينها لو أننا كنت بحال افضل حتى أستطيع تصوير المجرة.

اليوم الثاني

الارتفاع كما يبدو عند الوصول إلى القمة

الارتفاع كما يبدو عند الوصول إلى القمة

في صباح اليوم التالي، وبعد ليلة إنتهت بشكل غير متوقع، استيقظت في تمام السادسة صباحاً، كنت وقتها قد تحسنت كثيراً، أحسست بهمة ونشاط عاليان والحمد لله، شربت القليل من الحليب الساخن، والذي له دور كبير في تدفئة جسدي، استطعت الوضوء والصلاة واقفاً هذه المرة عكس الليلة السابقة، بعد الصلاة وتخفيف الكمية الهائلة مما ارتديته من ملابس شتوية ذهبت حينها لتناول وجبة الإفطار، دخلت على أصدقائي بإبتسامتي العريضة المتعادة، لاحظوا حينها تحسن كبير في صحتي ومزاجي أيضاً، قدموا لنا شوربة بنكهة الشوفان والتي تحتوي بدورها على عناصر غذائية مكملة لجميع الإحتياجات اليومية، كانت الشوربة بلا طعم أو رائحة ولا أية نكهات محسنة، لاحظت حينها أن الجميع يقوم بوضع القليل من مربى التوت مع الشوربة، فعلت مثلهم بالتأكيد، تحسن الطعم كثيراً واستطعت شربها كلها، خلال تناول الإفطار، والذي كان إفطاراً بسيطاً منوعاً، أخبرنا مشرف الرحلة بأننا سنواصل الإرتفاع أيضاً، تنفست الصعداء قليلاً، قال لي حينها بأنني لن أحس بكثير من الجهد كما في الأمس، بالإضافة أنه لن نواصل الصعود مسافة طويلة كما في السابق.

استراحة محارب، بعد الوصول إلى القمة

استراحة محارب، بعد الوصول إلى القمة

تحركنا جميعاً في تمام السابعة والنصف، كنا نسير صعوداً على طريق حاد متعرج قاصدين بذلك أعلى المرتفعات، إستغرق الأمر حوالي الساعتان والنصف كي نسير مسافة أربعمائة متر فقط، كنا جميعاً، نسير مدة لا تتجاوز الخمس دقائق لنقف بعدها محاولين لفظ أنفاسنا، كانت حالتي الصحية على أحسن حال على الرغم من صعوبة التنفس آن ذاك، كنا جميعاً -عدا مشرفنا- نحاول الصمود كي نصل إلى القمة، كان الجو حينها بادراً مشمساً، واصلنا السير ببطئ حتى رأينا جميعاً كيف هو المنظر عندما يكون مسطحاً ممتداً لمسافات بعيدة على إرتفاع عالٍ يعانق السماء، هنا القمة، على إرتفاع يبلغ ٤٦٠٠م فوق سطح البحر (أي ما يقارب ١٥٠٩٠ قدم) كانت الساعة تشير آن ذاك إلى العاشرة صباحاً، كنا نشعر بأشعة الشمس الحارة، فقد كانت بالنسبة لنا أقرب من أي وقت مضى، كنا نشعر أيضاً بالهواء البارد جداً، إستلقينا جميعاً غير آبهين بما نشعر، فرحين منتصرين بوصولنا أعلى المرتفعات، ساعة كاملة من النوم المريح العميق، بعيداً عن أي ضوضاء، في مكان كهذا لا تسمع سوى صوت أنفاسك، كانت لحظة رائعة تستحق التوثيق على الرغم من صعوبتها.

بعد ساعة ونصف من الراحة بدأنا بالنزول التدريجي، كنت أظن سابقاً أن النزول قد يكون سهلاً مقارنة بالصعود المتعب، قد يكون هذا الأمر صحيحاً فيما يتعلق بكيفية التنفس فقط، أما من ناحية السير نزولاً مسافةً طويلة، فقد تلاحظ بعض التورم في قدمك نتيجة السير لفترة طويلة بخطوات تنازلية قد تتعب القدم والكاحل، كنا خلال سيرنا نرى كمية هائلة من الثلوج بمنظر إعتدنا على رؤيتها فقط من بعيد ونحن على سطح الأرض، أصبحنا نراها الآن على مقربة منا ونشعر ببرودتها، الغريب في هذا المكان أن هنالك العديد من القرى الصغيرة، بتعداد سكان لا يتجاوز العشر أشخاص فقط، يعيشون ويرعون الأغنام وحيوان اللاما وبعض الخيول، كنا نمر على العديد من القرى دون الحديث أو قول شيء، أكملنا السير مسافة ليست بقليلة إلى أن وصلنا إلى منطقة ذو شلالات ومياه جارية، لتناول هنالك طعام الغداء.

ساعة واحدة للغداء والراحة والصلاة واصلنا بعدها السير بطريق أصبح نوعاً ما أكثر سهولة مما سبق، كنا خلال سيرنا نرى المزيد من القرى، نزلنا حينها إلى مستوى معتدل جداً للتنفس بشكل طبيعي، أوشكت الشمس على الغروب، كنا نرى بعض الفتيات الصغيرات من سكان القرى يعودون من المدارس بواسطة الحمير، رأيت إحداهن ممن لا يتجاوز عمرها العشر سنوات تمتطي حماراً وتسير به بمهارة عالية قد لا تراها إلا لدى سكان القرى فقط، وصلنا أخيراً إلى نقطة المبيت بتمام الخامسة مساءاً، أرتحنا جميعاً حتى المساء، لا تزال المنطقة دون أي تغطية لشبكات الهاتف النقال، رأيت عند خروجي للعشاء منظر السماء وقد كانت شبيهة إلى حد كبير بالليلة البارحة، رغم وجود بعضاً من السحاب هذه المرة، إلا أنه لم يمنعني ذلك من تصوير المجرة عدة مرات حتى الساعة العاشرة مساءاً.

اليوم الثالث

أكملنا السير لليوم الثالث بنفس التوقيت، كان هذا اليوم هو اليوم السهل الأخير وهو خط الإلتقاء مع جميع الرحالة السائرين على رحلة الماتشو بيتشو الأساسية، سرنا بهذا اليوم مدة لم تتجاوز ستة ساعات فقط، وهي مدة قليلة مقارنة بسابق الأيام، مررنا خلال سيرنا على قرى عديدة، دخلنا إلى العديد من المنازل، كانت أغلب المنازل تحضر شراباً محلياً يعرف بما يسمى بـ”تشيتشا” (بلغة الإنكا الأصلية – الكاتشوا) وهو شراب يتم تحضيره وتخميره بواسطة الذرة أو عدة أنواع من الفواكه المحلية لعدة أيام حتى يصبح تأثيره كتأثير المشروب المسكر، كانوا سابقاً يستخدمون قليلاً من رغوة هذا المشروب للتبرك وشكر الإله على نعم الشمس، الأرض، والسماء وكل ما له صلة بالحياة، أخبرنا والي حينها أن معظم مرشدين الرحلات في رحلة الماتشو بيتشو يشربون شراب التشيتشا بدلاً من الماء، فهو يمدهم بالطاقة اللازمة إضافةً لمضع نبتة الكوكا أيضاً، أكملنا السير بعد زيارة بعضاً من المنازل البسيطة والتي كانت كلها مبنية من الصخور، كان إرسال الهاتف النقال قد عاد حينها عند تزامننا مع طريق الإنكا الأصلي، كان الطريق الأصلي سهلاً للغاية ذو ترتيب وتنسيق، الطريق وسيع، يحتوي على العديد من أماكن بيع الماء البارد والعصيرات وغيرها من المشروبات والأطعمة الخفيفة بعكس الطريق الذي كنا نسلكه، إلا أنه لا يحتوي على المتعة والمغامرة الكافية بنظري.

كان الجو رائعاً جداً بالمساء، وبالطبع، منظر النجوم النادر والذي سأفقده كثيراً بعد هذا الرحلة، تناولنا عشاءاً تقليدياً يدعى باشامانكا (بلغة الكاتشوا) وهو شبيه إلى حد كبير بالوجبة السعودية المحلية (المدفون) حيث يتم حفر حفرة كبيرة في الأرض ووضع كمية كبيرة من الفحم المشتعل، ثم وضع جميع أنواع الطعام بعد تبهيرها وتغليفها جيداً بواسطة القصدير، ثم دفن الحفرة قليلاً بواسطة التراب يليها وضع الكثير من العشب، ويالها من وجبة رائعة، وبالطبع، لم أنسى تصوير النجوم قبل الخلود إلى النوم.

اليوم الرابع – ماتشوبيتشو – المدينة المفقودة

ختم يوضع على جواز السفر لكل من زار المدينة المفقودة

ختم يوضع على جواز السفر لكل من زار المدينة المفقودة

في صباح اليوم التالي، وفي تمام السادسة والنصف صباحاً وبعد إفطار سريع، ذهبنا جميعاً، مشرف الرحلة، مونيكا، دانييل وأنا إلى النقطة الأخيرة، المقصد النهائي لهذه الرحلة، الماتشو بيتشو، سرنا نحن الأربعة حاملين أمتعتنا بأنفسنا قاصدين الطريق المؤدي إلى آخر نقطة نسير إليها، لم يستغرق الوقت طويلاً، ودعنا السيد والي لنذهب حينها لركوب الباص الذي بدوره استغرق حوالي عشرون دقيقة حتى وصلنا إلى بوابة الدخول، كان الباص يسير بين طرق جبلية منحنية جداً، فمساكن الماتشو بيتشو تقطع وسط هذه الجبال، كنت أتسائل أثناء سير الباص بين هذه الجبال والممرات الضيقة التي تم تشييدها بدقة و عناية حتى يسهل الوصول إلى هذه المدينة الضائعة “كيف أستطاع مجموعة من الناس السكن والعيش هنا لفترات طويلة دون أن يعلم عنهم أحداً؟” كانت المنطقة من الخارج تبدو عادية، لاشيء غير اعتيادي، العديد من المطاعم، دورات للمياه وصندق لحفظ الأمتعة، كنا نحمل مسبقاً تذاكر الدخول والتي كانت شاملة ضمن تكاليف الرحلة، إفترقت عن مونيكا ودانييل على أن ألتقي بهم في الثالثة عصراً عند العودة، وما إن تجاوزت بوابة الدخول حتى رأيت المنظر المذهل، المنظر الذي سرنا من أجله ٣ أيام! ماتشو بيتشو.

إنطلقنا جميعاً بواسطة القطار السريع في تمام الرابعة عصراً بعد جولة في المدينة المفقودة استمرت لأكثر من خمس ساعات متوجهين إلى أولانتايتامبو حيث نقطة البداية للعودة إلى كوسكو، خلال رحلة القطار، والتي إستمرت قرابة الثلاث ساعات ونصف، كنا نرى الجبال الشاهقة، أخبرت دانييل حينها بأنني لا أعلم حقاً كيف استطعنا خوذ هذه الرحلة الشاقة، لكنني فخوراً جداً بما قمته، إنها تجربة لن أنساها ماحييت، ركبت معنا في المقصورة فتاة كولومبية ذو تسع سنوات تدعى إيزابيلا مرحة جداً -كعادة الشعب الكولومبي- كانت سبباً كافياً لتلطيف الجو وإزالة تعب ومشقة سفر طيلة الأيام الماضية. كانت هناك سيارة بإنتظارنا عند وصولنا إلى أولانتايتامبو، ذهبنا بعدها جميعاً إلى كوسكو لنصل في تمام التاسعة والنصف مساءاً، بعد أن ودعت كل من دانييل ومونيكا على أن أراهم غداً، ذهبت بعدها إلى الفندق، فكل ما أحتاجه الآن هو الإستحمام في حمام ساخن، ومن ثم النوم، والنوم، والكثير من النوم.