خالد صديق، مصور، رحالة

أمريكا اللاتينية

نازكا، الخطوط المبهمة، ومقابر تشاوتشيلا

إنه الأحد، الرابع والعشرون من شهر شوال لعام ١٤٣٦هـ، الموافق، التاسع من أغسطس لعام ٢٠١٥م، مضى حتى الآن واحد و ثلاثون يوماً منذ أن غادرت أرض البلاد، شهراً كاملاً في الأراضي اللاتينية، أجتزت أصعب جزاً في هذه الرحلة بتجربة رائعة لا تنسى، نمت طويلاً، نوماً عميقاً على سرير كنت قد حرمت منه لأربعة أيام متتالية، إستيقظت صباحاً متأخراً لأول مرة، كل ما أردته هو النوم بقدر المستطاع وتعويض مافاتني من نوم لإراحة جسدي، كانت الساعة التاسعة صباحاً، أمامي أكثر من ست ساعات من الراحة حتى أواصل ترحالي، أفطرت بما يسمى بـ(فطور الملوك) وجبة إفطار متكاملة في غرفتي الفاخرة دللت بها نفسي، لا بأس بصرف بعض المال على فندق فاخر وطعام رائع خصوصاً بعد ٣١ يوم من الترحال إنتهت بسير مايقارب ٥٦ كم في سلسلة جبال الأنديز الشاهقة.

خرجت للقيام بجولة أخيرة بالمدينة قبل الذهاب إلى الوجهة التالية -نازكا- كانت هنالك مسيرة دينية مفاجئة رائعة، رأيت العديد من الفرق الشعبية ترتدي لباس تقليدي وتقوم برقص رقصة شعبية جميلة تعرف برقصة السايا، قضيت بعض من الوقت بالتصوير ومن ثم توجهت لتناول وجبة الغداء، تناولت ما يكفي في الأيام الماضي من لحم الباكا وأسماك السلمون، لم أتناول لحم اللاما حتى الآن، وقع نظري على مطعم جميل قريب من الساحة الرئيسية إسمه papachos تناولت خلالها وجبة الغداء والتي كانت عبارة عن برجر بلحم اللاما، لا بأس بكسر الروتين قليلاً، بنهاية تناولي طعام الغداء، كنت قد ودعت المدينة.

ركبت سيارة الأجرة متوجهاً إلى محطة الباصات، أمامي الآن رحلة إلى مدينة تدعى نازكا بزمن يستغرق ١٤ ساعة، لأمكث في هذه المدينة ست ساعات فقط ومن ثم أغادرها إلى العاصمة ليما دون المبيت بها، كانت جميع رحلاتي البرية في البيرو بواسطة شركة نقل ممتازة جداً تدعى cruz del sur وهي شركة متخصصة للنقل العام في البيرو ذات مواصفات عالية جداً توفر إمكانية الحجز من الإنترنت، مقاعدها وسيعة جداً و ومريحة وهي قابلة للإنحناء لتصبح بشكل (شبه سرير) يوجد بكل مقعد شاشة كما لو كنت بالطائرة، تحتوي هذي الشاشة على وسائل ترفيهية متكاملة من أفلام، ألعاب، برامج محلية، موسيقى، وإنترنت أيضاً، يوجد بكل باص موظفة تقوم بدور المضيفة كما هو الحال في الرحلات الجوية، يقومون بتقديم وجبات مجانية أيضاً، كل هذا في باص رخيص التكلفة، عندما ذهبت إلى مقعدي الذي كان بجوار النافذة، رأيت إمرأة بيروفية كبيرة بالعمر بلبساها التقليدي تجلس بمقعدي، خاطبتني بتودد وإبتسامة خجولة فهمت من خلالها أنها تريد الإستمتاع بروية مدينتها وهي تودعها، جلست بمقعدها دون أن أقول شيئاً بالطبع، فهذه أكثر لطفاً من الرجل البرازيلي الذي جلس بمقعدي خلال رحلة الذهاب إلى ڤينيزويلا دون طلب الإذن أو حتى الإعتذار.

إنطلق الباص (الذي كلفني ١٤٠ سولس بيروفي فقط) من كوسكو في تمام الرابعة عصراً، اشغلت نفسي بالقراءة وكتابة مذاكراتي إلى المساء، قامت (مضيفة الباص) بتوزيع وجبات العشاء علينا، كانت هنالك وجبات عدة، لحم، دجاح، أو خضار، لم تكن هناك وجبات خضار متوفرة بكمية كافية لذا فضلت إختيار الدجاج، كان تواصلي مع المضيفة بلغتي الإسبانية الركيكة التي تعلمتها خلال فترة إقامتي، ناولتني العشاء، أرز أبيض، قطع من الدجاج، قطع صغيرة من الجزر المسلوق والفاصوليا و حلوى لا أعلم مكوناتها، تناولت ماتيسر، ولم تمضي نصف ساعة على تناولي العشاء إلا وأحسست (بل وسمعت بأذني أيضاً) أصواتاً غريبة عجيبة تدور في معدتي، وكأن معدتي تقولي لي ماهذا الذي تناولته! فتحت شنطتي الصغيرة، أخرجت المناديل المعقمة، أخذت معي قارورة ماء، وبصبر جميل متثاقل ذهبت إلى دورة المياه، ما إن اغلقت الباب على نفسي حتى تقيأت وأخرجت كل ما في معدتي من طعام.

ربما لم يكن الطعام نظيفاً، لا أعلم، ما كنت متأكداً منه هو برودة الطعام والتي قد تتسبب بتجمع الجراثيم والبكتيريا الضارة حوله، دقائق معدودة حتي تحسنت حالي دون اللجوء إلى أدوية ما، عدت إلى مقعدي، مازال هنالك الكثير من الوقت كي أصل صباح اليوم التالي، قضيت الليل كله نائماً، لم يكن نومي أمراً صبعاً بالنسبة لشخص أعتاد على نوم الباصات بكل من البرازيل و كولومبيا، كنت كلما استيقظت ليلاً استعين بخرائط جوجل كي استطيع معرفة موقعي الحالي وكم تبقى من زمن للوصول، نوم متقطع بجو بارد إلى أن وصلت إلى نازكا في تمام السادسة من صباح يوم الأثنين.

تقع مدينة نازكا في جنوب البيرو على بعد حوالي ٤٥٠ كم جنوب العاصمة ليما، وهي مدينة صغيرة ذي صحراء قاحلة كانت أحد مواطن حضارة نازكا التاريخية، إذ كانت تعتمد هذه الحضارة بشكل كبير على الرسومات الدقيقة الغريبة، ففي صحراء كبيرة تمتد على مساحة ٨٠ كم تقع صحراء نازكا، والتي تم تصنيفها رسمياً كموقع تراث عالمي سنة ١٩٩٤م، كانت التصاميم والخطوط الطويلة تشير إلى رسومات لم تُعرف الغاية الدقيقة الصحيحة منها حتى الآن، رسومات العديد من الحيوانات كالطيور والأسماك وحيوانات اللاما، القرود والنمور وشخصيات بشرية، بالإضافة لتصاميم أخرى كالأشجار والزهور، فضلاً عن السبب الكبير وراء بقاء هذه الرسومات إلى يومنا هذا والذي هو غالباً بسبب عزلتها والمناخ الجاف الهادئ.

هناك إمرأة تدعى ماريا ريشي، وهي باحثة ألمانية سخرت حياتها لدراسة هذه الخطوط محاولة فهمها واثبات أهميتها، كان لهذه الإمرأة دور كبير في الحفاظ والإهتمام على هذه الثروة التاريخية، إلى أن قررت ماريا العيش والإستقرار في نازكا بقية حياتها مسخرة جل وقتها وجهدها لدراسة هذه التحفة التاريخية النادرة حتى توفيت سنة ١٩٩٩م عن عمر يناهز ٩٦ سنة، وبسبب دورها الكبير وجهدها العظيم، تم تسمية المطار الواقع قرب هذه الصحراء بإسمها، بالإضافة إلى تسيمة أحد المدارس والعديد من المعالم الهامة بإسم ماريا ريشي.

أختلف العلماء في تفسير الغرض الرئيسي من هذه الرسومات، ولكن بشكل عام يظن الأغلبية أن لهذا الأمر علاقة دينية، هناك من يظن أن هذه الخطوط رسمت من قبل شعب نازكا كإثبات منهم على رؤيتهم مركبات فضائية! هناك من يظن أيضاً أن المخلوقات الفضائية هي من قامت بنفسها برسم هذه الخطوط، علقت الباحثة ماريا بخصوص هذا الأمر كنوع من السخرية متسائلة عن كيفية هبوط مركبات من الفضاء بمنطقة كهذه في جملتها الشهيرة: “الأرض لينة جداً في هذه المنطقة، أخشى بحق أن تكون السفن الفضائية قد غزرت هنا!!”.

كان هنالك رجل عجوز اسمه برونو، يبلغ من العمر ٦٥ عاماً يتمتع بكامل صحته ولياقته ينتظرني خارج محطة الباصات، ركبت سيارته المتهالكة وإنتظرت الآنسة ماريا، وهي السيدة المسؤولة عن ترتيب زيارتي لهذه المدينة، توصلت للآنسة ماريا من خلال الموقع السياحي http://www.greatnazcatours.com حيث رتبت لي جولة جوية فوق صحراء نازكا، بالإضافة لزيارة مقابر تدعى تشاوتشيلا ومن ثم العودة إلى محطة الباصات قبل موعد الرحلة التالية إلى العاصمة ليما، كل هذا كان بسعر إجمالي قدره ١٧٠ دولار أمريكي، كل شيء بالمدينة كان مغلقاً انذاك، حضرت السيدة ماريا وأخذتني إلى فندق مجاور لتناول طعام الإفطار هناك، بعد الإفطار، توجهنا لأخذ شاب وفتاة يقيمان في فندق مجاور كانا قد حضرا أيضاً لزيارة خطوط نازكا، ذهبنا بعدها جميعاً إلى مطار ماريا ريشي للتحليق فوق صحراء نازكا ومشاهدة الرسومات الدقيقة العجيبة.

ركبنا جميعاً الطائرة في رحلة تستغرق نصف ساعة على إرتفاع منخفظ، كانت جميع الصور والمشاهد التي رأيتها خلال بحثي تختلف إختلافاً كبيراً عما رأيته في الطبيعة، كانت الرسومات طويلة، دقيقة جداً دون تعرجات، بعض منها على جبال، والبعض الآخر على الصحراء، لا أحد يستطيع الجزم عن سبب هذه الرسوم بالطبع، استطيع وضع احتمالية أنها رسوم أوجدت لتبين لنا كيف كان يعيشون هؤلاء القوم وكيف كانت حياتهم، وأن الأمر له علاقة دينية أيضاً كما هو متوقع، فتلك الحضارات كانت متمسكة جداً بالعادات الدينية، بدأنا مباشرة برؤية خطوط الحوت، كثير من السياح تفوتهم فرصة رؤية الرسمة الأولى دائماً، تلاها رسمة المثلث الشبه منحرف، ثم رسمة رجل على طرف جبل ذو يد واحدة يلوح بها، قرد ذو ذيل ملتوي، كلب ذو أرجلٌ طويلة، طائر الطنان، نسر، عنكبوت، طير الكاتراز الحزين ذو الرسم الغريب الدقيق جداً، تلاها رسمة الببغاء، شجرة صغيرة و من ثم أخيراً رسمة يد غريبة أيضاً، إثنتا عشر رسمة شاهدناها بسرعة وتركيز عاليين في فترة لم تتجاوز النصف ساعة، استغليت وقتي بالتصوير تارة، وبالإستمتاع بالمشاهدة تارة أخرى، مكان كهذا نادر الوجود يستحق أن يوثق بجميع تفاصيله.

ودعت أصدقائي وذهبت أنا والسيد برونو إلى مقابر قديمة تدعى مقابر تشاوتشيلا Chauchilla Cemetery وهي مقابر تبعد حوالي ٣٠ كم عن مدينة نازكا اكتشفت عام ١٩٢٠م وتشمل هذه المقابر العديد من المدافن الهامة التي كانت متواجدة على فترة تمتد من ٦٠٠ الى ٧٠٠ سنة، تعرضت هذه المقابر للنهب عدة مرات بواسطة ما يسمون بـ(لصوص القبور) حتى اصبحت هذه المقابر محمية رسمياً من قبل الحكومة سنة ١٩٩٧م.

الطريق لهذه المقابر ترابي غير معبد، توترت قليلاً أثناء الذهاب إلى هناك، أحسست بالرهبة قليلاً، فلا وجود للمباني أبداً، أرض قاحلة، لا بشر، ولا سيارات، لا شيء سوانا أنا والسيد برونو، كان السيد برونو يسير بسيارته المتهالكة مستمعاً لأغاني إنجليزية تعود لزمن الستينات الميلادية، كنت في تلك الحظة أعيش عصر الستينات الميلادية، سيارة قديمة، رجل عجوز، و أرض قاحلة لا تحتوي على شيء، سألني برونو فجأة عن موطني، كانت دهشته عظيمة، عظيمة جداً عندما علم أنني سعودي مسلم، رجل في هذا العمر يعرف الكثير من المعلومات عن الإسلام بالطبع، أخذ يسألني، ويستمر في سؤالي أسألة عميقة جداً في تفاصيلها، سألني عن الأنبياء والرسل، القران، الحجاب وتعدد الأزواج، من الصعب جداً إقناع أناس في عمر كهذا، إلا أنني استطعت اقناعه عن سبب كل شيء محرم ومباح في ديننا الإسلامي، سألني برونو بغرابة قائلاً: “هل تصلي؟” أجبته بإبتسامة: “بالطبع”، رد علي بدهشة غريبة: “خمس مرات في اليوم؟ إلى أن تموت؟” رددت عليه ضاحكاً قائلاً: “هل تريد مني أن لا أتذكر الله إلا في وقت المحن والمصاعب فقط؟ لقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه عن مجموعة أناس يذكرون الله في سفنهم خشية الغرق فقط، عندما نجاهم الله من الغرق والموت نسوه تماماً، هل تريدني أن أفعل كذلك؟ لا يا سيدي، إننا نذكر الله في الرخاء كي يذكرنا في الشدة، قل لي أنت، هل تصلي صلاتك المسحية كل يوم؟ هل هناك ترتيب وتوقيت دقيق وثابت في الدين المسيحي يقتضي بدوام العبادة لله من طلوع الشمس إلى غروبها في سائر أرجاء العالم كما نفعل نحن المسلمين؟ أرأيت كيف إسلامنا جميلاً يا سيدي؟” لم يرد السيد برونو على أسألتي، لكنه علق قائلاً: “أنا أتعجب من شاب في مثل عمرك لم يملئ وجهه التجاعيد يستطيع التحدث بهذه الكمية من المعلومات!”.

بانت ملامح المقابر بالظهور، أخذنا بالتجول بينها، كانت المناظر تحسسني بقليل من القشعريرة، كنت أرى الجثث كما لو أن أصاحبها وافتهم المنية قبل أشهر لا مئات السنين، أخبرني برونو حينها أنه سبب الحفاظ على هيئيتهم طيلة هذه السنين كان بسبب المناخ الجاف بصحراء البيرو، تم حشو الجثث بالقطن من الداخل وخياطة الأجزاء المتقطعة منها ومن ثم وضعها في حفر مكشوفة مصنوعة من الطين، أخبرني برونو أيضاً بأنه في زمن نازكا كان معدل عمر الرجل آنذاك من ٣٥ إلى ٤٠ عاماً فقط، أما بالنسبة للمرأة فقد كان معدل عمرها من ٥٠ إلى ٧٠ عاماً، كنت أرى شعورهم الطويلة بوضوح لكل من الرجال والنساء، أشار السيد برونو ممازحاً إلى أحد الجثث قائلاً إن شعره الطويل يشبه المغني الشهير (بوب مارلي)، كان البشر في زمن نازكا يسمون بـ(كوراكاس) وهم جميعاً ذو شهور طويلة، جميع القبور التي زرناها كانت الجثث المتواجدة فيها بإتجاه الشرق، يعود السبب في ذلك إلى عبادة الشمس التي تشرق من جهة الشرق كما هو الحال في حضارة الإنكا الذين كانت عبادتهم الأساسية هي إله الشمس، كانت لدى حضارة نازكا لغة تسمى (بونيكي) وفي ذاك الزمان كانت نسبة المزارعين تشكل ٣٠٪ من مجموع الحضارة بأكملها. أربعون دقيقة قضيتها بالمكان قبل أن أعود مرة أخرى إلى محطة الباصات، أذكر حينها أن أحد من الزملاء راسلني محذراً وناصحاً إياي من حرمة وخطورة الذهاب إلى أماكن كهذه، فأماكن قبور كهذه لا تصح زيارتها لأنها أماكن عذاب كما قال، كنت قد نسيت الأمر تماماً ولم أبحث عنه لأكون صريحاً، ولكن، إن كان لي الخيار مرة أخرى فلن أذهب إلى مكان كهذا بالطبع.

عدنا إلى محطة الباصات قبل موعد الرحلة بساعة كاملة، كانت هناك الآنسة ماريا بإنتظارنا، جلسنا سوياً، السيد برونو، ماريا و أنا، تحدث السيد برونو قائلاً لماريا بأنني من ديانة يسمح فيها للرجل بالزواج من أربعة نساء، قاطعته سريعاً قائلاً: “إن كان يملك القدرة المالية والعقلية والجسدية وبالطبع، أن يكون عادلاً بينهن”، ودعنا برونو فيما جلست ماريا بإنتظاري إلى أن يحين موعد الرحلة، قالت لي حينها إنه من العادة الشائعة و إنه من الطبيعي في البيرو أن تجد الإمراة تحمل وتنجب دون زواج، لدرجة أن الجميع يسألها لما هي إلى الآن في منتصف العشرينات دون حمل حتى الآن، فيما كانت هي قنوعة بأفضلية الحمل بعد الزواج الشرعي من نواحي عدة، أبديت لها نفس الرأي وبأسباب مقنعة أيضاً.

قبل ركوب الباص تذكرت ماحصل لي جراء تناول العشاء في الليلة السابقة، لذا اشتريت من محل مجاور بعض الكعك والموز بالإضافة للعصير والماء، ومن ثم، إلى ليما، ست ساعات قضيتها في نازكا ولا تستحق أكثر من ذلك.