إل كالافيت
تقع مدينة إل كالافيت الجليدية في مقاطعة سانتا كروز، باتاغونيا، الواقعة بالجزء الجنوبي الغربي من الارجنتين، وهي مدينة يعود السبب في تسميتها إلى الشجيرات الصغيرة ذو الزهور الصفراء المنتشرة في باتاغونيا عموما.
كان السبب الرئيسي لزيارة هذه المدينة ولمدة يوم ونصف اليوم، هو زيارة الحديقة الوطنية والتي تعرف بـ (Los Glaciares National Park) أو كما تسمى بالحديقة الوطنية الجليدية، وهي حديقة ضخمة تبلغ مساحتها أكثر من ٧٢٦٩ كيلو متر مربع، مصنفة رسميا ضمن منظمة اليونيسكو، مشكلة بذلك ثاني أكبر حديقة وطنية في الأرجنتين.
ما يميز هذه الحديقة هو احتوائها على المسطح الجليدي والذي يعرف بـ (بيريتو مورينو الجليدي) The Perito Moreno Glacier – بالإسبانية Glaciar Perito Moreno – وهو مسطح جليدي ضخم عذب المياه، يبلغ مساحته حوالي ٢٥٠ كيلو متر مربع، مشكلا بذلك ثالث أكبر احتياطي من الماء العذب حول العالم اجمع.
في عصر يوم الجمعة ٦ ذو القعدة ١٤٣٦هـ الموافق ٢١ أغسطس ٢٠١٥م أقلعت الطائرة في تمام الرابع وعشر دقائق من مطار أوشوايا مودعا بذلك اخر مدينة في هذا العالم، المدينة التي لا يوجد بعدها سوى القطب الجنوبي، واعدا نفسي بأن اعود هنا مرة أخرى ليس لزيارتها فحسب، بل ولزيارة القطب الجنوبي أيضاً. لم يستغرق الوقت قليلا قبل أن تتلاشي الثلوج كلما اتجهنا شمال البلاد، وصلت الطائرة بعد حوالي الساعة وثلث الساعة إلى إل كالافيت، المدينة الأرجنتينية الثالثة في هذه البلاد.
كان مطار إل كالافيت حديث البناء، صغير وجميل، يبعد قليلا عن وسط المدينة، يوجد بالمطار العديد من الباصات السياحية التي توفر لك خدمة الايصال من والى المدينة، رأيت أحد الشركات السياحية ذو لوحة كرتونية موفية اللون، يقف عليها رحالة مظهرهم كحال مظهري تماما، انضممت إليهم مباشرة دون تردد، اشتريت تذكرة باص ذو اتجاه واحد إلى المدينة بمبلغ قدره ١٠٠ بيسو، كان لديهم عرض جميل، وهو عند شراء قيمة التذكرة من والى المطار، ستحصل على خصم جميل على تذكرة العودة، خطأي الوحيد أنني فضلت شراء تذكرة ذاهب واحدة فقط إلى وسط المدينة.
خلال اقامتي في إل كالافيت، كنت ارغب بالحجز في بيوت الشباب اميريكان ديل سور America Del Sur Hostel التابع لنفس الشركة التي سكنت بها في بوينس ايرس، فرغم بعده عن وسط المدينة قليلا الا انه كان مملتئ الحجز بالعديد من الرحالة، هنا نصيحة أخرى للشباب الرحالة ذو الحقيبة الواحدة، خلال اقامتكم في الأرجنتين، لا تسكنوا في غير بيوت الشباب اميريكان ديل سور America Del Sur Hostel.
وصلت إلى بيوت الشباب قبيل مغيب الشمس، كان البيت خاليا لا يحتوي على أية نزيل سواي!! يدير البيت أخوين رائعين، كانت تكلفة اقامة ليلتان في غرفة مفردة غير مشتركة هي ٣٠٠ ريال سعودي فقط، كان مستوى هذا البيت أقرب إلى انه فندق، استمتعت بالتجول بكامل البيت وحدي، ولأنني الزائر الوحيد قاموا باعطائي أفضل غرفة لديهم، كان أحد الاخوين فرح جيدا عندما أخبرني بأنني أول زائر من المملكة العربية السعودية، اخذني إلى غرفة المعيشة الواسعة، والتي تحتوي على صورة كبيرة جدا لخريطة العالم، طلب مني ألا أسافر من هنا قبل أن اترك اشارة تشير إلى انه قد حضر رجل “سعودي” إليهم.
كان جو المدينة باردا جدا، ببرودة تساوي بردوة أوشوايا، الا أن ليست هناك ثلوج تذكر، كانت جميع المنازل مبنية بتصماميم غريبة وباحجام مختلفة، تجولت بين ممرات المدينة بجو بارد جدا إلى أن حل المساء، تذكرت حينها أنني لم أتناول طعام الغداء، أردت مكافئة نفسي بعشاء فاخر، استغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تقع عيناي على مطعم ارجنتيني يقدم اللحم المشوي على الحطب، اخي المسافر، ارجوك، اياك أن تفوت فرصة تناول طعام اللحم المشوي في الأرجنتين عموما وفي إل كالافيت خصوصا، يا له من لحم!!
توقفت عند مطعم يدعى Mi Viejo كان المطعم فاخر منظما ذو طعاما لذيذ جعلني أتناول عشائي فيه ليومين متتاليين، طلبت الوجبة المشوية Cordero Asado بالإضافة لشوربة الذرة، عصير البرتقال والفاكهة الحمراء (وهي عبارة عن مزيج من التوت البري والتوت الاحمر الطازج والفرولة والكرز، بالإضافة إلى قطعة من الايس كريم)، كان هذا عشاءا ارجنتينيا دافئا لن انساه أبدا!
كانت نومة هادئة عميقة، استيقظت في تمام السابعة صباحا لتناول طعام الافطار والتوجه إلى محطة الباصات استعدادا للذهاب إلى الحديقة الوطنية، ماهذا؟! كل هذا الافطار معد لي وحدي؟! التقيت بالسيدة مالك المنزل أم الشباين الذين ألقيت بهما بالامس، اعتنت بي وكاني صغيرها، كانت تسكب لي الحليب الساخن وتزدوني بكل ما لذ وطاب من الافطار الشهي في مطبخ دافئ خالي من الزوار، في وقت لم تشرق به الشمس بعد.
خرجت بعد تناول الافطار إلى محطة الباصات التي لم تكن تبعد أكثر من السير لخمس دقائق، كانت المحطة شبه خالية، فوقت زيارتنا كان في فصل الشتاء وهو ليس الوقت المناسب للزيارة غالبا لشدة برودة الجو، استغرق الوصول إلى الحديقة الوطنية حوالي الساعة ونصف، ركب معي في الباص امراتان في سن الاربعون، أحدهن سنغافورية والاخرى كورية وجميعهن يقمن برحلة سويا في أمريكا اللاتينية، وبالطبع دون تردد، استغليت وجود الإمرأة السنغافورية لامارس معها ما تعلمته من لغة صينية إلى أن وصلنا إلى الحديقة الجليدية.
سرنا مباشرة نحو القارب الضخم الذي اخذنا بجولة اقتربنا منها إلى أقرب نقطة نستطيع الوصول اليها نحو المنطقة المتجمدة، كان الجو بارد، شديد البردوة، كان درجة الحرارة على تطبيق الجوال تشير إلى انها درجتان مئوية تحت الصفر، كنت اشك في ذلك بسبب أنني وصلت لمستوى برودة لم يمكنني حتى من تحريك أصابع يدي فلم أكن ارتدي أية قفازات، كنت اذا اخرجت يدي من معطفي للتصوير، لا تمضي أكثر من خمس دقائق حتى أحس بأصابعي تكاد أن تتجمد ولا تتحرك بسهولة، كانت برودة الدم في يدي تجعل من أصابعي بطيئة الحركة، فلم يكن الدم يتدفق بسهولة، استمر هذا الأمر إلى أن وصلت إلى مرحلة شعرت بها بكلتا يدي الاثنتين وكان الدبابيس تاكل بها من كل جهة، كنت اصور تارة، وادخل إلى المنطقة الدافئة بالقارب لتدفئة يدي ومن ثم العودة للخارج للتصوير تارة أخرى، وهكذا.
إل كالافيتكانت هنالك عدة أنشطة بالحديقة من ضمنها السير لحوالي ست ساعات بمعدات سير خاصة فوق هذا المسطح الجليدي، ولكن لم أكن املك الطاقة والمال الكافيان أيضاً لعمل ذلك، فقد كانت التكلفة باهظة بعض الشيء خصوصا بعد شهر ونصف من الترحال والصرف المستمر، فضلا عن القيام بالكثير من رحلات المشي في هذه الرحلة لم أكن بحاجة إلى القيام بالمشي فوق الجليد الان.