روسيا

من قلب سيبيريا الباردة

من قلب سيبيريا الباردة، تيومين وتوبولسك، بلدتان صغيرتان تقعا في سيبيريا الشمالية، الحياة في هذه البلدتين متناقضة على الرغم من تقاربهما، زرت كل منهما على حدة، ولكن قررت أن أجمعهما في تقرير واحد نظراً لقصر الإقامة في كل منهما

IMG_3891.JPG

تيومين

تيومين أوبلاست

تيومين، وهي عاصمة مقاطعة تيومين أوبلاست، وهي أول مستوطنة روسية في وسط البلاد، تقدر مساحتها ٢٣٥كم، تأسست هذه المدينة سنة ١٥٨٦م للتوسع الروسي الصناعي الإقتصادي، فهي مدينة غنية بالنفط، فضلاً عن أنها قابلة للعيش بسبب مرورها على نهر تورا، النهر الذي يتجاوز طوله ٢٥٠٠م

وعلى بعد ٢٥٠كم شمال شرق تيومين، تقع بلدة صغيرة تسمى توبولسك، وهي أصغر من تيومين بقليل، توبولسك بلدة تحكي ماضي مرير جداً، فقد سُميت توبولسك بهذا الإسم -على أغلب تقدير- تيمناً بنهر توبو الذي يمر بوسط المدينة، ويتفرع بعد ذلك مع نهر آخر يدعى إيرتيش.

البرج الذي يقال بأنه دفنت تحته جميع الحاجيات الهامة للمسلمين

في السابق، كانت هناك مدينة تدعى ”اسكير“ وهي اختصار لـ (إسكي سيبيريا) وحسب بعض المراجع، فإن كلمة إسكي، باللغة التركية، تعني قديم، أي سيبيريا القديمة، وهو وما يدل على قدم وإرث هذه المدينة التي كانت تسمى بسيبيريا القديمة (إسكي سيبيريا)، إلا أن الغزو الروسي المرير دمر كل شيء وبنى مدينة أخرى مجاور لها سنة ١٥٨٥م، واحتاروا في تسميتها، فسموها توبولسك، تيمناً بالنهر، كما ذكرنا آنفا

عندما غزا الروس مدينة إسكي سيبيريا، كانوا قد قتلوا الكثير من المسلمين، يقال بأنهم قد قتلوا أكثر من نصف المسلمون، حتى أنهم يقولون إن دماء المسلمين كانت تجري كمجرى النهير (أي النهر الصغير)، بدؤا بعد ذلك بالتنصير، والترويس أيضاً، ونقصد بالترويس أي التطبع بالأطباع الروسية، ولا يزال هذا الأمر سارياً حتى الآن، ففي كثير من الأحيان رأيت الكثير من الشباب المسلمين الذين تطبعوا بأطباع الروس، وأصبحوا لا يحملون من الدين إلا اسمه، والكثير من العادات الروسية الغير حميدة

وقد قيل أيضاً أنه بعد غزو المدينة، أخذ الروس جميع الحاجيات والمواد الهامة جداً بالنسبة للمسلمين، دفنوها جميعاً، وبنوا فوقها برجاً طويلاً جميلاً ذو قبة ذهبية، حتى يختفي كل ماهو مهم بالنسبة للمسلمين، ولم أجد مصادر كثيرة تدعم صحة هذا الأمر

درجة الحرارة في سيبيريا

إنها شمال سيبيريا، حيث البرد الشديد صيفاً وشتاءاً، الحياة هنا في فصل الشتاء لا تطاق، فقد تصل درجة الحرارة إلى خمسون درجة مئوية تحت الصفر، في كل من تيومين وتوبولسك، فيما كانت درجة الحرارة في توبولسك أثناء زيارتي لها في فصل الصيف حوالي ٧ درجات مئوية

الإسلام في سيبيريا

على الرغم من التطبع الروسي في المدن السيبيرية، إلا أن انتشار المساجد واضح وبكثرة في كل من تيومين وتوبولسك، زرت بعضاً منها وألتقيت بنخبة من الجيل الطيب منهم المواطنون ومنهم الطلاب القادمون من خارج روسيا، وهذا أمر حسن جميل

التعليم في سيبيريا

أحد الجامعات في تيومين

أحد الجامعات في تيومين

هناك العديد من الجامعات المنتشر في مدينة تيومين مثل:

  • جامعة النفط والغار
  • جامعة تيومين
  • جامعة تيومين الطبية
  • الجامعة الهندسية بتومين
  • الجامعة العسكرية بتومين
  • معهد تيومين للثقافة
  • وغيرها من المراكز التعليمية الأخرة

كنت قد التقيت ببعض الطلاب الدراسين خلال تواجدي في سيبيريا

  

النقل بين مدن سيبيريا

ترتبط سيبيريا بشكل قطار سريع بين معظم أنحاء المدن السيبيرية، يوجد أيضاً مطار دولي في تيومين، ويسير عدة رحلات بين مدن روسيا الرئيسية، وبعض العواصم الدولية المجاورة

IMG_4101.JPG

قطارات سيبيريا

أفضل وسيلة للتنقل بين المدن السيبيرة

تكلفة المعيشة في سيبيريا

إن قارنا تيومين وتوبولسك بالعواصم الرئيسية الثلاث (موسكو، سانت بيتيرسبيرغ، كازان) فالحياة في هذين المدينتين أرخص بكثير

تيومين وتوبولسك، كما تبدوان على الخريطة

تيومين وتوبولسك، كما تبدوان على الخريطة

أين تذهب في تيومين

لم أقم بزيارة بجميع هذه الأماكن أدناه، إلا أنني أذكرها لكم من باب الفائدة فقط

  • جامع تيومين Tyumenskaya sobornaya mechet
  • جامع Sobor
  • جامع Mechet يعتبر أقدم مسجد في تيومين
  • كنيسة الدير الثالث المقدسة Holy Trinity Men's Monastery
  • كاتدرائية زنامنسكي Znamenskiy Cathedral
  • كنيسة القديس جورج Saint George Ascension Church
  • نهر تورا Tura River
  • جسر المشاه، جسر العشاق Bridge of Lovers

أين تذهب في توبولسك

في توبولسك، ومن وجهة نظري، لا شيء أجمل من قضاء معظم الوقت بداخل كرملين توبولسك

مشاهدات من سيبيريا الباردة

السبت، ٦ شوال ١٤٣٨هـ، ١ يوليوا ٢٠١٧ - كازان - تتارستان

مطار كازان الدولي

مطار كازان الدولي

صحوت من نومي في تمام الخامسة فجراً، كانت رحلتي في السابعة وعشر دقائق، لذا فقد توجب علي المغادرة مبكراً إلى المطر، صليت الفجر والجميع نيام، نزلت إلى قسم الإستقبال ولم أجد أحداً، وضعت مفاتيح الغرفة على طاولة الإستقبال وخرجت متوجهاً إلى المطار في الخامسة والربع تقريباً، كانت محطة القطار التي تصلني إلى المطار مغلقة في هذا الوقت، فساعات عمل القطار تبدأ في السادسة صباحاً كل يوم حسب ما أفادني الزميل (شمس الدين) والذي يعمل في بيوت شباب مدينة كازان.

قمت ببحث سريع بين تطبيق سيارات الأجرة (أوبر) وبين سيارات الأجرة الخارجية، كان الرحلة ستكلفني ما يقارب ١٥٠٠ روبل روسي إن ذهبت من خلال تطبيقات سيارة الأجرة، من حسن الحظ، وجدت سيارة أجرة عادية تنتظر بجانب الطريق، أوصلتني إلى المطار في مدة لم تتجاوز النصف الساعة، ودعت بها مدينة كازان، آملاً أن أعود إليها مرة أخرى.

الرحلة رقم ٣٤٤ والمتجهة إلى موسكو

الرحلة رقم ٣٤٤ والمتجهة إلى موسكو

كانت رحلتي عبر خطوط طيران uTair كنت قد أصدرت بطاقة صعود الطائرة مسبقاً من خلال تطبيق الهاتف المحمول، لذا، فلم يكن علي فعله سوى شحن حقيبة الترحال والتوجه إلى صالات المغادرة، نويت تناول طعام الإفطار هنا في المطار، وجدت مصادفة مقهى ”كوستا كوفي“ للقهوة، اشتريت ما تيسر من القهوة والمعجنات والماء، شربت قهوتي آملاً أن يذهب عني النعاس، فلم أنم البارحة سوى أربع ساعات فقط، جلست بعدها أنتظر موعد الإعلان عن إقلاع الطائرة والمتوجهة إلى تيومين مروراً بالعاصمة موسكو.

لم يمكن هناك رحلات مباشرة من تتارستان، كازان، إلى سيبيريا، تيومين، لذا، فقد توجب علي الطيران إلى العاصمة موسكو أولاً ثم مواصلة الرحلة إلى تيومين.

IMG_3831.JPG

أقلعت الطائرة في وقتها المحدد في تمام السابعة وعشر دقائق بتوقيت كازان متوجهة إلى مطار ڤنوكوڤو الدولي، أحد مطارات موسكو الدولية الثلاثة والتي زرتها جميعاً في هذه الرحلة، كان زمن الرحلة من كازان إلى موسكو حوالي ساعة وأربعون دقيقة، كانت الطائرة هذه المرة أوسع بكثير من الطائرة السابقة وذو محركات داخلية كالتي اعتدنا عليها، استطعت هذه المرة وضع حقيبتي في الأدراج العلوية، نمت طيلة زمن الرحلة، رغم أنني وللتو شربت قهوتي أثناء تناول طعام الإفطار.

وصلت إلى موسكو في تمام الثامنة وأربعون صباحاً، كان زمن الإنتظار بين الرحلتين ساعتين وعشرون دقيقة، حيث أن الرحلة التالية إلى سيبيريا كانت مجدولة في تمام الحادي عشر صباحاً، ولكن، شائت الأقدار بتأخير زمن المغادرة ساعة كاملة إضافية، أقلعت الطائرة متوجهة إلى مطار مدينة تيومين في الثاني عشر ظهراً، في رحلة استمرت ساعتين وعشر دقائق.

صناديق التبرع الإسلامية والنصرانية

صناديق التبرع الإسلامية والنصرانية

هنا تيومين، قلب سيبيريا، وصلت مع فارق التوقيت في حوالي الرابعة والنصف عصراً بتوقيت المدينة، لم أفعل شيئاً في هذا اليوم سوى التنقل بين مدن روسيا البعيدة، لاحظت فور خروجي من صالة القدوم وجود صناديق للصدقة، صناديق للتبرع لمعتنقي الدين الإسلامي، وأخرى للمسيحية، بجانب بعضهما البعض، تأملت المطار الصغير المتواضع والذي يكفي احتياج المدينة، وأنا أردد بداخلي بأنني سأعود إلى هنا مرة أخرى قبل ذهابي إلى دائرة القطب الشمالي.

لم أرى وجود لشركات سيارة الأجرة (أوبر) هنا، لذا، فقد استعنت بشركات سيارة الأجرة الروسية (ياندكس) كانت تلك أول مرة استخدم بها هذا التطبيق، وهو رائع يفي بالغرض، وهو أرخص من تطبيق أوبر بشكل ملحوظ، أوصلني السائق إلى مقر سكني، بمبلغ لا يتجاوز الـ ٢٠ ريالاً سعودي في مدة استغرقت ٢٥ دقيقة بين المطار ومقر سكني، تأملت خلالها حال المدينة الإقتصادية الهادئة الباردة، رغم وجود أشعة الشمس آنذاك.

المجمع السكني حيث أقمت، ذو تمصاميم وأولوان موحدة، كما هي الحال في جمع أرجاء المدينة

المجمع السكني حيث أقمت، ذو تمصاميم وأولوان موحدة، كما هي الحال في جمع أرجاء المدينة

كانت اقامتي في تيومين مع أحد العوائل المحلية، كنت قد حجزت اقامتي لديهم من خلال تطبيق AirBnb عندما وصلت إلى وجهتي المطلوبة حسب العنوان المدون لدي، تهت قليلاً قبل أن أنتبه أن مدخل المنزل من الخلف لا من الأمام، جرت العادة كثيراً في روسيا، وبسبب البرد القارس، أن يبنون المباني بشكل دائري أو مربع وبشكل مجوف فارغ في المنتصف، حتى تعطي الدفئ اللازم.

كانت الشقة تقع في الطابق الثالث عشر، وهو الطابق الأخير في عمارة طويلة تحمل نفس الشكل والتصميم مع جميع عمائرها المجاورة، وهذا ما وجدته في تيومين عموماً، جميع المباني أخذت نفس الشكل والتصميم، وهي غالباً قد بنيت في وقت واحد، فهذه عادة الروس عندما يسيطرون على مدن ما ويهدمون ما فيها، يقومون ببناء كل شيء في وقت واحد.

غرفة نومي المتواضعة لدى الأسرة التي سكنت معها

غرفة نومي المتواضعة لدى الأسرة التي سكنت معها

رننت الجرس، تحدثت المالكة بالغلة الروسية ورديت عليها بالإنجليزية، صعدت بواسطة المصعد إلى الطابق الثاني عشر، ومن ثم أكملت السير إلى الطابق الثالث عشر، حيث لا يصل المعصد إلى الطابق الثالث عشر ولا أعلم لماذا، فعلت ما اعتدت على فعله ”أخلع حذائي أولا“ أخذتني المرأة إلى غرفتي وكانت فسيحة واسعة جداً، أرتني المرأة مرافق المنزل، صليت الظهر والعصر وارتحت قليلاً بعد عناء السفر الطويل، ومن ثم خرجت للبحث عن طعام الغداء، في مدينة لا يسكنها السياح أبداً.

بعد قليل من الراحة خرجت للسير إلى منتصف المدينة دون إتجاه محدد، رأيت مركز المدينة والذي يتجمع به عموم الناس، إنه يوم السبت، وهو يوم إجازة العمل، رأيت مطعم يبدو لي أن من يعمل بداخله كلهم من المسلمين، وهم ليسو من روسيا، رأيت -كالمعتاد- الشاورما تباع في هذا المطعم، كما كان أحدهم يشوي اللحم بالخلف، رأيت إمرأة في الداخل تصنع طعام المنتو أيضاً، راق لي المطعم رغم تواضعه وهذا وما أعجبني، كانت قائمة الطعام مكتوبة بخط اليوم على ورقة عادية وبخط ليس واضح جداً وباللغة الروسية، ساعدني الرجل، قام بالقرائة لي، وبالطبع، لم أفهم شيئاً، كان وقت حضوري بين فترة الغداء والعشاء، لذا لم يكن كل شيء متوفر، استطعت طلب الحساء والخبز، رأيت الإمرأة تضع بعض اللحم لتصنع المعجنات، أشرت عليها وقلت: أريد مثل هذا!

أثناء إنتظار الطعام سألني الرجل كعادته عن موطني، رأيت استغرابه وعدم اعتياده على ذلك، أخبر الإمرأة العاملة في الداخل أيضاً، رأيت منها ابتسامة عريضة جعلتها تكرمني بكمية إضافية من الحساء، وصل الحساء والخبر، كان الحساء يحتوي على قطعة كبيرة من اللحم والعظم وبعض من البطاطا، كتلك التي تناولتها في موسكو، ثم وصل شراب الكمبود الذي أحببت شربه، أحضروا لي بعد ذلك وجبة تسمى سمسا، وهي عجينة طُبخت بالفرن، ومحشية باللحم والبصل، ويغطيها السمسم من الأعلى، وهي مشابهة إلى حد كبيرة لطعام لدينا بالمملكة العربية السعودية وبمنطقة الحجاز يسمى ”فرموزة“

نال الطعام على استحساني، خصوصاً بعد رحلة طويلة، خرجت بعد ذلك للسير بشكل عشوائي حتى وصلت إلى ساحة عامة بها أطفال كثيرون يلعبون في كل مكان، كُن الأمهات، والشباب من هم بمثل سني، ينظرون إلي باستغراب، لم يعتادوا على وجود سائح بينهم في مدينة ليست لديها أي مقومات للسياحة، الا انني أحببت القدوم إلى هنا لرؤية كيف هي المدن الروسية من زوايا أخرى، بل، وكيف يعيش المسلمون هنا أيضاً، أوقفوني عدة مرات للتصوير معي، وقد اعتدت على ذلك.

الساحة الرئيسية حيث يجتمع بها أهل المدينة

الساحة الرئيسية حيث يجتمع بها أهل المدينة

ذهبت بعدها إلي متجر صغير للتبضع ببعض الحاجيات، ومن ثم سرت بعدها باتجاه نهر تورا للتجول حوله ورؤية الجسر الذي يسمونه بجسر العشاق، كنت اتوقع أنه سيوقفني الكثير للتصوير هنا أيضاً، ولكن، لم أتوقع أن يوقفني شاب عربي وفلسطيني أيضاً، قدم إلى أحدهم يسألني ما إذا كنت سائحاً أو طالباً هنا، قلت بأنني سائح، سألته عن موطنه فقال ”فلسطين“ دُهشت قليلاً، ومن ثم حدثته باللغة العربية، لأرى الدهشة بعينه هو وصديقه، حذيفة، وصديقه محمد، شابان من فلسطين يدرسان هنا في تيومين وفي جامعة عسكرية ولم يمض لهما سوى أربعة أشهر فقط، قال لي محمد، ”إن أردت تعلم اللغة الروسية فعليك التعرف على فتاة روسية هنا!!!“ تحدثت معهما كثيراً، علمت حينها أنهم يقيمون في الجامعة العسكرية طيلة الوقت، وأن خروجهم يكون فقط في نهاية الإسبوع ولديهم وقت محدد للعودة، وإلا، فهناك جزائات كثيرة سينالونها، أخبراني أيضاً بأن هناك طلاب من المملكة العربية السعودية يدرسون معهم في نفس الجامعة، قضيت معهما وقتاً طويلاً حتى الساعة الحادي عشر مساءاً، ودعتمها وعدت إلى منزلي، كنت مستيقظاَ في المنزل إلى قرابة الواحدة فجراً، ولم تكن السماء سوداء اللون، فما زالت في وضع الغروب!

كنيسة دير ثالوث المقدسة

كنيسة دير ثالوث المقدسة

استيقظت صباح اليوم التالي في العاشرة صباحاً، تناولت طعام الإفطار بصحبة الأسرة وجلست معهم لتبادل أطراف الحديث حتى الواحدة ظهراً، كانت وجهتي الأولى هي زيارة كنيسة الدير الثالث المقدسة، كما تسمى، وهي كنسية أسست عام ١٦١٦م من قبل راهب كان قد حضر من كازان إلى تيومين، تقع هذه الكنيسة على مكان استراتيجي بمرتفع عال ومجاور لنهر تورا، كانت بالبداية عبارة عن مبنى صغير متواضع، إلى أن توسعت وأصبحت كما هي عليه حتى الآن في عام ١٦٨٠م.

بعد جولة قصيرة في الكنسية توجهت إلى ممشى نهر تورا الطويل، والذي ينتهي بجسر العشاق الذي وصلت إليه البارحة، وبسبب تأخر الوقت لم تتاح لي زيارة جميع المعالم هنا، كان الجو صحو جميل هادئ، الجميع يتجول بهدوء، لم يدم الهدوء كثيراً، بدأ الناس بالتجمع علي واحد تلو الآخر طالبين التصوير معي، ملامحي ولون بشرتي واختلافي الكامل عنهم، أسباب كافية لحصول مثل هذه المواقف في معظم المدن الروسية والتي لا يعرفها السياح غالباً.

IMG_3955.JPG

كانت هناك العديد من المحلات الصغير والتي تبيع بعضاً من المأكولات الخفيفة، الشاي والقهوة، والمثلجات، رغبت بتناول بعضاً من المثلجات، رأيت بعضهم يقف بطابور لا يتجاوز السبعة أشخاص، توقفت بخلفهم، رأيتهم يأخذون المثلجات إما بيضاء أو وردية اللون، قلت بداخلي أنه وعلى أغلب تقدير أن اللون الوردي هي نكهة الفراولة أو ما شابه، تجنباً للحرج، قمت بترجمة ما أريد قوله قبل أن يصل دوري، ظللت أردد ”أدنو ماروجني“ أي، قطعة واحدة من الآيس كريم، وبإمكاني التأشير بإصبعي على النوع الذي أريد، عندما اقترب دوري سمعت الذي أمامي يقول ”أربوووس“ ليأخذ بعدها الآيس كريم المثلج ذاللون الوردي، حان دوري وقلت مثلما قال ”أربووس“ لآخذ مثله تماماً! متجاهلاً الجملة التي ترجمتها وتعلمتها للتو، أخبرني أحد الأصدقاء بعدها أنني قمت بطلب آيس كريم بنكهة البطيخ!! حسناً، أياً كانت النكهة، لا يهم 

IMG_3959.JPG

أكملت تجولي على الممشى بجانب النهر، متأملاً كل ما هو حولي، رأيت الكثير من أنابيب تمديد المياه الساخنة، وهي تستخدم عادة في فصل الشتاء، ففي وسط سيبيريا يكون البرد قارصاً بدرجة تجمد النهر بأكمله، تقوم الحكومة الروسية بتمديد المياه الحارة والغاز في جميع أنحاء المدينة، كانت هذه الأنابيب التي رأيتها ممددة من قبل الحكومة. كان يمر بجانبي الأطفال فيتوقفون وينظرون إلي بابتسامة واستغراب، يجلس أحدهم بجانبي بفضول غريب، يتحدث معي بكلمات روسية عديدة لا أفهم منها شيئاً، يحاولون محاولات عديدة لأخبرهم بأنني سائح ولا أدرس هنا، تزداد دهشتهم عندا يسمعون (سآئودي سكارابيا)، أي المملكة العربية السعودية.

 

وصلت بعدها إلى مطعم رأيته جميلاً من الخارج، ولا تبدوا عليه ملامح التواضع كمطعم البارحة، دخلت إلى المطعم فحدثتني الموظفة باللغة الروسية طالبة مني الصعود إلى الطابق العلوي، صعدت إلى الأعلى، لا أعلم مدى الحرج الشديد الذي سببته للشاب عندما خاطبته باللغة الإنجليزية، ظل يعتذر مني مراراً وتكراراً لأنه لا يتحدث اللغة الإنجليزية، كتبت له بواسطة برنامج الترجمة ”أنا ما يجب علي الإعتذار يا سيدي، أنا في روسيا ولا أتحدث الروسية“.

أرسلوا إلى بشابة تعمل لديهم كدوام جزئي -كما علمت لاحقاً- قالت لي أنها درست الثانوية خارج البلاد، وهو سبب تكمنها من اللغة الإنجليزية بشكل جميل، ولأن قائمة الطعام كانت باللغة الروسية فقط، اقترحت علي العديد من الأصناف، اقترحت علي شراب الليمون بالخيار! كان اختيارها لحساء الخضار رائعاً جداً، أما عن الوجبة الرئيسية، والتي تسمى ”تشاخوخ بيلي“ فهي عبارة عن قطع من الدجاج والخضار طُبخت وسط وعاء أشبه بالفخار، شربت بعد ذلك الشاي بنكهة الرمان، كنت سعيداً جداً لأنني تناول وجبة غداء متكاملة بسهولة.

بعض الشوارع كما تبدو في تيومين

بعض الشوارع كما تبدو في تيومين

IMG_4010.JPG

خرجت بعد تناول الغداء متجولاً حول المدينة، كنت ألاحظ كثرة استخدام الدراجات الهوائية كوسيلة رسمية للتنقل خصوصاً للشباب، كذلك اهتمامهم الدقيق بالنباتات والزهور، وهي عادة حميدة لم أكن أتوقع أن أراها هنا.

ذهبت بعد ذلك إلى جامع عمر بن الخطاب، وهو جامع حديث البناء لم يمضي على عمره سبع سنوات، كان الجامع يبعد حوالي عشرون دقيقة عن وسط المدينة، وصلت إلى هناك قبل صلاة العصر بساعة وربع، فور وصولي إلى الجامع، ومن حسن حظي، مرت سيارة صغيرة بها رجل بشوشو توقف فوراً وألقى علي تحية الإسلام، ترجل الرجل من سيارته، صافحته هو وصديقه، كان الرجل -واسمه جَنّات - وهو أحد جماعة المسجد، يتحدث العربية بطلاقة رائعة، عرض أن يوصلني غداً إلى توبولسك حيث أردت الذهاب، إلا أنني كنت قد حجزت تذكرة القطار مسبقاً.

حكمة الله، رجل من أوزباكستان، يعتني بنظافة المسجد

حكمة الله، رجل من أوزباكستان، يعتني بنظافة المسجد

دخلت إلى داخل المسجد فوجدت رجل يقوم بتنظيف والعناية المسجد، اسمه حكمة الله، وهو من أوزباكستان، يعيش ويعمل لخدمة المسجد هنا في سيبيريا، عندما رآني أريد التقاط صور للمسجد منعني فوراً، أخبرته بأنني مسلم قدمت من المملكة العربية السعودية أريد زيارتهم والسلام عليهم، قلت ذلك بشيء من اللغة الروسية الركيكية إلا أنه فهم ما أريد قوله وفرح كثيراً، أخذني لمكان الوضوء، وهو مبنى صغير يقع بالساحة الخلفية من المسجد كما هي العادة في كثير من المساجد التي رأيتها في روسيا، توضأت وصليت تحية المسجد وقرأت من تسير من كتابه الكريم بانتظار وقت أذان صلاة العصر، جلس الرجل بجانبي محاولاً الحديث معي، كان في البداية يمنعني من التقاط صور للمسجد ظناً منه أنني سائح غير مسلم، إلا أنه سمح لي بعد ذلك.

IMG_4018.JPG

جَنّات

رجل بشوش لطيف، التقيت به عند مدخل المسجد، عرض علي إيصالي إلى توبولسك

IMG_0634.JPG

جامع عمر بن الخطاب

تيومين

حضر المؤذن في تمام السادسة والنصف مساءاً للأذان لصلاة العصر، فيما بدأ المصلون بالحضور، كان كل من يحضر إلى المسجد يتوجه نحوي بالسلام فوراً، رأيت شاب اسمه محمد كشاف، وهو من غانا، يدرس هنا في تيومين، يتحدث محمد كشاف اللغة العربية بمستوى متقدم جداً، يتحدث كذلك اللغة الإنجليزية والألمانية قليلاً، بالإضافة إلى اللغة الروسية بالطبع، رأيت رجل آخر اسمه إلياس، وطفل اسمه عمر، ومجموعة آخرون، كان أحدهم قد درس في الجامعة الإسلامية على نفقة المملكة العربية السعودية، وكان يتحدث العربية بإتقان أيضاً.

IMG_0636.JPG

بعد قضاء وقتاً رائع مع هذه الجماعة الطيبة، أوصلني أحدهم إلى مسجد آخر يدعى Sobor يبعد ٢٥ دقيقة عن المسجد الحالي، وهو مسجد قديم جداً عمره أكثر من ١٢٥ عاماً، دخلت إلي المسجد لإلقاء نظرة عامة، كان المسجد بمجمله مبني من الخشب، رأيت رجلٌ كبير في السن يقرأ القران عند مدخل المسجد، سلمت عليه واستأذنته بإلقاء نظرة بداخل المسجد، كان المسجد يحتوي على طابقين، يقع مصلى الرجال في الطابق السفلي فيما يقع مصلى النساء والمكتبة وحلقات تحفيظ القران الكريم في الطابق العلوي، قضيت بعض من الوقت هناك قبل أن أعود إلى وسط المدينة لإلتقاط بعض الصور

صورة جوية بعد غروب الشمس في تيومين

صورة جوية بعد غروب الشمس في تيومين

الذهاب إلى توبولسك

محطة القطارات في تيومين

محطة القطارات في تيومين

صحوت في اليوم التالي، يوم الأثنين، في تمام السابعة صباحاً، خرجت من المنزل في السابعة وخمس وأربعون دقيقة متوجهاً إلى محطة القطار التي لا تبعد سوى ثماني دقائق بواسطة السيارة، كانت الساعة ثمانية صباحاً عندما وصلت إلى محطة القطار، فيما كانت رحلة القطار والمتوجهة إلى توبولسك في الثامنة والنصف.

دخلت إلى داخل المحطة فوجدت جميع الساعات تشير إلى السادسة صباحاً، كانت ساعة يدي تشير إلى الثامنة، كذلك ساعة هاتفي، توترت قليلاً، لماذا جميع الساعات هنا تشير إلى السادسة فيما تشير ساعتي إلى الثامنة، كنت متأكداً عندما استيقظت من نومي في السابعة، نظرت إلى لوحة المعلومات الخاصة بجميع الرحلات ولم أجد رحلتي المتوجهة إلى توبولسك، فلم يحن موعد الرحلة بعد، خرجت إلى أرصفة القطارات وتحدثت مع موظفة الإركاب، أريتها تذكرة القطار التي أحملها، أشارت إلى الساعة الموجودة بأعلى المبنى، أشارت كذلك إلى الساعة التي بيدها، قائلة أنه لم يحن موعد الرحلة! استسلمت وعدت إلى صالة المغادرة.

IMG_4094.JPG

تناولت طعام الإفطار أثناء انتظاري، في ذلك الوقت، حضر رجل شرطي طلب رؤية جوازي، كانت تبدو عليه ملامح الهدوء والشدة حتى رأى ظاهر جواز سفري للتحول ملامحه من الهدوء إلى الدهشة، عرفت حينها أنه مسلم، أخذ يري زملائه جواز سفري ويقول لهم ”انه من السعودية، انه مسلم!“ اخذ يتحدث معي كثيراً عن السعودية وأنه يتمنى الحج هذا العام، ارتحت كثيراً عندما رأيته يتبسم، سألته عن اختلاف التوقيت هنا في محطة القطار، اخبرني حينها أن جميع محطات القطار في روسيا تسير على توقيت موسكو فقط! وهذا هو سبب اختلاف التوقيت.

عندما اقترب موعد المغادرة هممت بالذهاب، توقفت أمام شاشة المعلومات للحظات لأرى أي رصيف هو رصيف القطار الخاص بي، حضر نفس الشرطي فوراً وأوصلني بنفسه إلى مقصورة القطار، كان لطيفٌ جداً.

كان القطار متوقفاً والجميع بالخارج، دخلت إلى المقصورة ووجدت الإمرأة العاملة تقوم بغسيل وتنظيف جميع أرجاء المقصورة، طلبت مني وضع حقيبتي والإنتظار في الخارج حتى يحين وقت المغادرة، كان القطار في سيبيريا قطار مبيت، أي يحتوي على أسرة بجميع مقصوراته ولا يحتوي على مقاعد عادية، ناولتني العاملة أغطية السرير لأضعها بنفسي على سريري، فعلت ذلك وانتظرت في الخارج إلى حين موعد المغادرة.

تحرك القطار بوقته كعادته، اصابني النعاس بسبب نومي المتأخر واستيقاظي المبكر، وصل القطار إلى توبولسك بعد أربع ساعات من إنطلاقه، كانت السماء تهطل بشدة، يوجد في مدينة توبولسك محطتين للقطار، أحدها في وسط المدينة وكانت مغلقة، وأخرى في خارج المدينة وهي التي وصلت إليها. كانت محطة القطار تبعد حوالي نصف ساعة عن وسط مدينة توبولسك، خرجت من المحطة ولم أجد سيارات أجرة أو باص يوصلني إلى وسط المدينة، من حسن حظي حضر رجل إلى داخل صالة القطار، بعد دقائق، عندما هم بالخروج، عرض علي إيصالي إلى مقر سكني في توبولسك.

القطار فور وصوله لمدينة توبولسك

القطار فور وصوله لمدينة توبولسك

IMG_0651.JPG

كان الرجل يرتدي لباساً غريباً وكأنه لباس الرهبان المسحيين، لم يطل الأمر كثيراً إلى أن تأكدت عندما ركبت سيارته، اسمه ألكساندر، يتحدث الإنجليزية بمستوى جيد، رأيت بداخل سيارته الكثير من الصور والرموز التي ترمز إلى الديانة المسيحية، زاد تأكيد ذلك عندما رأيت ردة فعله بعد أن علم عن موطني.

كان الرجل في غاية اللطف، أرشدني إلى بعض الأماكن الهامة في المدينة، أوصلني إلى الفندق حيث سأقيم، وهو فندق جميل وقديم ومقابل لساحة الكرملين أسمه فندق سيبيريا، كانت سعر الليلة الواحدة به ١٦٥ ريال سعودي، كانت الأمطار تهطل بشدة طيلة اليوم، ارتحت قليلاً وتناولت طعام الغداء في مطعم الفندق، فلم أكن استطيع الخروج لشدة المطر، قضيت معظم الوقت بداخل الفندق إلى أن توقف المطر قليلاً قبيل غروب الشمس، خرجت للقيام بجولة خفيفة والتقاط بعض الصور، خلال التجول رأيت الرجل الذي أوصلني، ألكساندر، تحدثت معه قليلاً قبل أن أصل إلى الفندق.

IMG_4217.JPG

صوت في التالي متأخراً قليلاً، كانت الساعة الحادي عشر عندما خرجت من الفندق للتجول في المدينة، كان الجو صحوٌ جميل، لا وجود للشمس سوى الغيم، ذهبت إلى ساحة الكريملين التي امتلئت ببعض الأطفال الذين حضرو بدرجاتهم للعب، لم تمضي خمس دقائق على جلوسي حتى حضرت إمرأة أردات التصوير معي، حضر رجل اخر لنفس الغرض، بعد دقائق، رأيت مجموعة من سائقي الدرجات النارية تجمعوا حولي وأرادوا التصوير معي أيضاً، حضر كذلك بعض الأطفال، بالنهاية، حضر رجل كبير بالسن بكاميرته والحامل الثلاثي أيضاً، كنت أتقبل الجميع بصدر رحب، لم يعتادوا على رؤية السياح في تيومين فكيف بمدينة توبولسك وهي أصغر منها بقليل.

دخلت إلى قصر الكرملين الذي كان خالياً هادئاً جداً، كنت حينها أقارن هدوء هذا الحصن مقارنة مع قصر الكرملين في موسكو، كان قصر الكرملين يقع على قبضة عالية تطل بإطلالة جميلة على مدينة توبولسك، قضيت بعض الوقت هناك قبل أن أذهب لتناول طعام الغداء، لم أجد صعوبة في طلب طعامي هذه المرة، فقد اعتدت على كل شيء.

DJI_0225.JPG

هطل المطر بشدة فتوجهت إلى أحد المراكز التجارية للتبضع قليلاً، لم يكن لدي شيء لأفعله بعد ذلك خصوصاً في ظل وجود المطر، اختفى الجميع من ساحة الكرملين، فقد عادت الأجواء كما كانت عليه بالأمس، ذهبت إلى أحد المقاهي للكتابة والتدوين وقضاء وبعض الوقت حتى المساء، في المساء وقبيل غروب الشمس، كانت درجة الحرارة حينها سبع درجات مئوية، توقف المطر وخرجت للتصوير الجوي، أثناء التصوير حضر ألكساندر مرة أخرى، كنت أخبره بأنني أحب هدوء هذه المدينة أكثر من ضجيج وغلاء موسكو، رآني أرتجف قليلاً، أخبرته أن الجو بارد هنا، ضحك قليلاً قائلاً أن الجو جميلاً الآن، فإن الأجواء هنا في فصل الشتاء تصل أحياناً إلى خمس وأربعون درجة مئوية تحت الصفر، ضحك مرة أخرى قائلا: إنها سيبيريا يا خالد.

صورة جوية لقصر الكرملين، والذي يقع على هضبة مرتفعة

صورة جوية لقصر الكرملين، والذي يقع على هضبة مرتفعة

عندما توقف المطر أثناء غروب الشمس كان منظر السماء مهيب ومخيف، كانت الغيوم شديدة السواد فيما كانت الشمس محمرة، كانت السحب تسير بشكل تراها العين المجردة، امتزاجها مع احمرار الشمس جعلني أظن لوهلة وكأن هناك نار تشتعل، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.

غروب الشمس كما يبدو في سيبيريا

غروب الشمس كما يبدو في سيبيريا