مورمانسك
مورمانسك، مدينة أسست سنة ١٩١٦م، قبل حوالي ١٠١ سنة من عامنا الحالي، تقع على شبه جزيرة في أقصى الشمال الغربي من روسيا، ويصنف موقع المدينة على أنها تقع في دائرة القطب الشمالي، سماها إبن بطوطة ببلاد الظلمات، ويعود إسم مورمانسك حسب التعريف السوفييتي إلى (الشاطئ الشمالي) وهو الشاطئ الذي يقع في جمهورية الإتحاد السوفييتي من جهة الشمال، وهي آخر مدينة بنيت في عهد الإمبراطورية الروسية.
تعتبر مورمانسك مدينة هامة بالنسبة للتاريخ الروسي، فهي أحد المدن التي حاربت الجنود الألمان حرباً مستميتاً خلال الحرب العالمية الثانية، ولهذا السبب، يسمونها بالمدينة البطلة أو الشجاعة، تقديراً لشجاعتها ضد عدوان الجيش التابع لهتلر.
مورمانسك
دائرة القطب الشمالي
تعتبر مورماسك أقرب إلى القطب الشمالي من موسكو، حيث يبعد القطب الشمالي عن مورمانسك قرابة ١٤٠٠كم، بينما تبعد المدينة عن موسكو حوالي ١٨٠٠كم، يمر بها نهر يسمى كوالا، وبالرغم من توفر الكمية الكافية من الأنهار وبقربها أيضاً من المحيط، إلا أن مورمانسك مدينة غير زراعية أبداً، فكل ما فيها من طعام يأتي من العاصمة موسكو ماعدا السمك والكافيار، وفوق ذلك، لا وجود للحيوانات هنا إلا قليل منها، ويتم استيراد علفها من موسكو أيضاً.
إن اطلعنا على طقس المدينة سنستنتج حتماً الأسباب لإنعدامية وجود الحيوانات والحياة الزراعية هنا، فبسبب موقع المدينة الجغرافي تجد أن درجة الحرارة في أكثر أيام الدفئ في مورمانسك تبلغ في فصل الصيف حوالي ٥ درجات مئوية، فكيف بها في فصل الشتاء إذاً؟!
رغم برودة الطقس في هذه المنطقة الواقعة في الدائرة القطبية الشمالية، إلا أنه يوجد بها ميناء يعرف بأنه الميناء الوحيد في العالم الذي لا يتجمد، يعود السبب في ذلك إلى وجود تيار بحري دافئ يأتي من البحر الكاريبي بشكل مستمر طوال العام، وهو ما يتسبب بعدم تجمد أحد موانئها، أما عن الموانئ الأخرى فقد خصصت الحكومة في روسيا خمس سفن ذرية لتحطيم جليدها بشكل مستمر.
تعتبر مورمانسك مدينة عملية جداً، يوجد بها الكثير من المعادن، كما يوجد بها أكبر مصانع للطائرات الحربية في روسيا، فضلاً عن مصانع السفن الروسية، والأهم من ذلك كله، هو اتخاذ الحكومة الروسية من مدينة مورمانسك نقطة مركزية ومواقف خاصة للسفن النووية الروسية.
تشتهر المدينة بتكاثر أسماك السلمون، تصل أسماك السلمون بشكل مستمر قادمة من المحيط الأطلسي لتضع بيضها في نهر كوالا الدافئ، لذا، فإنه وخلال تواجدك في مورمانسك فإن أفضل ما يمكنك تناوله هو الأسماك الطازجة، بالإضافة لطعام الكافيار الفاخر.
أكثر مهنة تجدها هنا هو الصيد والعمل في الموانئ، وبالحديث عن الموانئ، فإن في مورمانسك ٣ موانئ رئيسية، ميناء مخصص لسفن صيد الأسماك، وميناء آخر للسفن التجارية، وميناء لسفن نقل الركاب، يتم تبديل العاملين في هذه الموانئ والعاملين في مجال الصيد كل أربعة أشهر، وذلك لصعوبة طبيعة العمل هناك. أسباب عديدة جعل الحكومة الروسية تصير على العيش في هذه المدينة نظراً لكثرة الفوائد الناتجة من موقعها الجغرافي رغم صعوبة العيش بها.
إن كنت تفكر بزيارة هذه المدينة في يوم من الأيام، فيجب عليك الوضع بعين الإعتبار بأن النهار والليل ليسوا سواءاً، فهناك أشهر عديدة لا يرون سكان المدينة الليل فيها أبداً، فتكون الشمس مشرقة طوال اليوم، يكون ذلك في فصل الصيف، أما في فصل الشتاء، فقد لا ترى الشمس لأشهر عدة، أشهر تكون بها أنوار الشوارع مضاءة على مدار الساعة، لذلك، يحتفل سكان مدينة مورمانسك عند أول شروق للشمس، ولو كان شروقٌ جزئي لساعات قليلة، يكون ذلك في الأول من شهر إبريل على أغلب تقدير.
أجواء باردة، نهارٌ دائم في بعض الأحيان، وليلٌ دائمٌ أحياناً أخرى، لا أحد يرغب بالعيش في مكان كهذا، لا البشر، ولا الحيوانات، ولا حتى النباتات، تجد جميع الأشجار هنا صغيرة القامة، الأمر الذي يجعلك تظن بأنه حديثة النمو، إلا أن أعمار الأشجار هنا يتجاوز ٢٥٠ عاماً، ولكن، كيف لها أن تنمو نمواً مستمراً إذا كانت لا ترى الشمس بشكل كامل الا أشهر قليلة بالسنة، حتى في ظل وجود أشعة الشمس، تكون الأجواء غالباً باردة ممطرة وغائمة، الأمر الذي يجعل نمو هذه الأشجار أقل مما يتوقعه الإنسان.
يعيش في مورنانسك حوالي ٦٥٠ ألف نسمة، أتاحت لهم الدولة العديد من المميزات للعيش في دائرة القطب الشمالي، فهناك رواتب عالية وعلاوات ضخمة، بالإضافة إجازة لا تقل عن ٦٠ يوماً في السنة، وهي ضعف المدة التي ينالها المواطن الروسي في المدن الأخرى، تتكفل الدولة في هذه الإجازة بنقل المواطن الروسي وعائلته على نفقتها إلى أقرب مدينة مشمسة للتعرض لأشعة الشمس لفوائدها صحية.
أين تذهب في مورمانسك
تمثال اليوشي، الجندي المجهول
مدينة مورمانسك ليست بالمدينة السياحية، لكن هناك بعض المعالم الهامة بالنسبة للمدينة نظراً لعمقها التاريخي ومنها:
اليوشي
وهي كلمة روسية تعني “تمثال الجندي المجهول” بني هذا التمثال تقديراً للشعب السوفييتي على شجاعته ضد الغزو الألماني
ميناء المدينة
وهو أهم من يمكنك رؤيته بعد تمثال اليوشي، نظراً لكونه الميناء الوحيد الذي لا يتجمد، فضلاً عن وجود السفن الروسية النووية بها
مقبرة الجنود
وهي مقبرة صغيرة تضم بعضاً من جنود الإتحاد السوفييتي الذين حاربوا وقاوموا الغزو الألماني، لم أقم بزيارتها ولكن تم ذكرها لأهميتها فقط
مشاهد من مورمانسك
الثلاثاء ١٠ شوال ١٤٣٨هـ، الموافق: ٤ يوليو ٢٠١٧م
القطار السيبيري المتجه من توبولسك إلى تيومين
من وسط سيبيريا، وتحديداً من مدينة تولوبسك، كانت الخطة تشير إلى أن أركب قطار ليلي للذهاب إلى مدينة تيومين، ومن ثم الذهاب إلى مطار تيومين الدولي للطيران إلى موسكو لبضع ساعات، ثم الطيران مرة أخرى إلى دائرة القطب الشمالي، الكثير من الرحلات في هذا اليوم والقليل من النوم.
ركبت القطار الليلي والمتوجه إلى مدينة تيومين، تحرك القطار في تمام الحادي عشر بتوقيت موسكو، التاسعة بتوقيت توبولسك في رحلة استمرت أربع ساعات، لم يكن لدي وقتاً كافياً للنوم سوى هذه الساعات الأربع، فور وصول القطار إلى مدينة تيومين في الثالثة صباحاً بتوقيت موسكو، الخامسة بتوقيت تيومين، ركبت سيارة الأجرة متوجهاً إلى مطار تيومين الدولي.
مطار تيومين الدولي
وصلت إلى المطار في الوقت المناسب دون أي تأخير، كانت رحلتي إلى توبولسك عبر خطوط طيران أيروفلوت الروسية، كنت قد طبعت بطاقة صعود الطائرة من خلال التطبيق المخصص لذلك، لذا لم يكن علي سوى شحن حقيبة الترحال.
كنت أتوجس قليلاً بسبب بعد المسافة، وكأني أعلم بأن شيئاً ما سيحدث، عندما بادرت بشحن حقيبة الترحال سألتني الموظفة للتأكيد عن وجهتي النهائية التي هي بطبيعة الحال مورمانسك، استلمت بطاقة صعود الطائرة وجميع الأمور على مايرام.
وجبة الطعام المقدمة في الطائرة، كلوب ساندويتش (بلحم الخنزيرللأسف) زبادي وشكولاته
أقلعت الطائرة في الخامسة وخمس وعشرون دقيقة صباحاً في رحلة استغرقت ساعتان وخمس وأربعون دقيقة، كنت مرهقاً ناعساً، إلا أنني لم استطع النوم هذه المرة بسبب شربي للكثير من القهوة، وصلت الطائرة إلى مطار موسكو شيريميت الدولي SVO في السادسة وعشر دقائق بتوقيت موسكو، كان حينها قد تبقى ٤٥ دقيقة فقط على موعد الرحلة التالية، لم تتوقف الطائرة عند البوابة المخصصة لها، فاضطررنا لركوب الباص الذي تأخر كثيراً حتى وصلنا إلى صالة المطار، ركضت كثيراً بكل ما أملك من طاقة إلى أن وصلت إلى بوابة المغادرة.
دخلت إلى الطائرة المتوجهة إلى وجهتها الأخيرة، مورمانسك، انتظرنا كثيراً، حان موعد الإقلاع ولم تقلع الطائرة بعد، اتممنا ساعة كاملة ونحن بانتظار اقلاع الطائرة، إلى أن تحدث كاتبن الطائرة بكلمات روسية لم أفهم منها شيئاً، بمجرد إنتهاء كابتن الطائرة من حديثه رأيت جميع الركاب يفكون أربطة حزام الأمان ويهمون جميعاً بالمغادرة أن أي تذمر يذكر، كان كل ذلك يحصل في هدوء تام وأنا لا أعلم مالذي يحدث.
لم أجد أحداً يتحدث الإنجليزية لأسأله، نزلت معهم ومشيت معهم، إلى أن وصلت إلى صالة المطار مرة أخرى، كانوا يرددون الرقم ٢١ باللغة الروسية، ذهبت إلى رجل كان يبدو عليه ملامح شخصية المسؤول، كنت تاهئاً، الجميع ينزل من الطائرة والآن أسمع تعليمات باللغة الروسية لا أفهم منها شيئاً، شرح لي الموظف أخيراً بأن الطائرة لم تستطع الطيران نظراً لعطل فني بها، ويتوجب علينا الذهاب إلى بوابة رقم ٢١ والإنتظار هناك إلى حين أن يتم استبدال الطائرة بطائرة أخرى، لا أعلم حينها لما تسألت عن مصير حقيبتي القادمة من وسط سيبيريا.
أقلعت الطائرة بعد حوالي ساعتين من وقت اقلاعها المحدد، نمت في أغلب الوقت إلى أن صحوت فجأة لأى المنظر من النافذة والمنطقة مليئة بالضباب الذي لم يتيح لي رؤية أي شيء، علمت حينها بأنني شارفت على الوصول.
مطار مورمانسك
وصلنا إلى مطار مورمانسك الدولي والإرهاق يكاد أن ينال مني! مشينا سيراً على الأقدام إلى أن دخلت إلى صالة القدوم، فور دخولي إلى صالة القدوم أوقفني رجل شرطي طلب رؤية جوازي وسألني عن سبب قدومي إلى مورمانسك وعن مكان إقامتي، من الطبيعي أن يتحقق رجال الشرطة عن ماهية أسباب وجود شاب مثلي في مدينة كهذه.
توقفت عند منطقة استلام الحقائب، انتظرت كثيراً حتى ذهب جميع المغادرون ولم تصل حقيبتي بعد، هذا ما كنت أخشاه، منذ أن سلمت حقيبتي في مطار تيومين، سيبيريا، إلى أبعد نقطة في روسيا، فُقدت حقيبتي في مكان ما، حضرت امرأة تحدثت لي كثيراً وأنا أرد عليها بإستحياء بأنني لا أجيد الروسية، استعانت الإمرأة بشاب لغته الإنجليزية ركيكة جداً، قام بتعبئة النموذج الخاص بفقدان الحقائب، سألني عن عنوان سكني بالتفصيل، أخبرني حينها بأن حقيبتي ستصل مع رحلة يوم الغد، كنت قد وضعت في حقيبة الترحال أحد أكبر وأغلى عدسات التصوير الفوتوغرافي، رجوت الله كل الرجاء أن تصل حقيبتي بسلام.
الطريق من المطار إلى وسط المدينة
خرجت من المطار الصغير الذي لا يوجد به شيء يذكر، كانت قد ذهبت جميع سيارات الأجرة ولا يوجد شخصاً يقلني إلى وسط المدينة، يبعد المطار مسافة ٣٧كم عن مدينة مورمانسك، رغم المسافة المتواضعة إلا أنني اضطررت للإنتظار كثيراً في جو لا يعرف معنى الدفئ، خرج رجل من المطار يبدو عليه أنه ذاهب إلى وسط المدينة، عرض علي إيصالي مقابل ٩٠٠ روبل روسي، وهي قيمة لا بأس بها، وافقت بلا تردد
أول شاب من المملكة يسكن في هذا الفندق
كان انطباعي الأولي من خلال الطريق الذي رأيته لا بأس به، لم اعتد على ركوب سيارة من المطار إلى وسط المدينة في أغلب الأحيان في روسيا نظراً لانتشار القطارات السريعة في معظم المدن، ولكن، ما رأيته في حداثة ورتابة الطريق جعلني أيقن مدى اهتمام الجهة المسؤولة عن تعبيد الطريق في روسيا، يحيط بجانبي الطريق الأشجار الكثيف وبعض البحيرات والقليل من الجسور، كان الجو غائماً، وهكذا هو الحال إلى أن وصلت بعد نصف ساعة إلى مقر سكني، فندق Mini and Brakefast.
غفوت من الرابعة وحتى السادسة مساءاً، وبسبب رحلتي الطويلة من الأراضي السيبيرية إلى هنا في مورمانسك، لم أجد وقتاً لتناول طعام الغداء، لذا فأول شيء فعلته هو الخروج للبحث عن مطعم مناسب لتناول العشاء.
كانت السابعة تشير إلى السابعة مساءاً عندما خرجت لتناول طعام العشاء، كنت قد تفاجئت جداً ببرودة الجو على الرغم من علمي المسبق بأجواء روسيا الباردة، علمت حينها بأني قد أخطأت التقدير في عدم احضار ملابس داخليه باردة تحميني من برودة هذا الجو في عز الصيف!
وصلت إلى مطعم مجاور يبدو لي أنه فاخر، لم أشأ البحث كثيراً خوفاً من أن تغلق المحلات قبيل الثامنة مساءاً، هناك عادة جميلة رأيتها في جميع المدن الروسية، عند دخولك إلى المطاعم والمقاهي الروسية عادة، فإنه يجب عليك خلع معطفك وتسليمه لموظف مختص يضعه في غرفة جانبيه، وهي أحد الآداب التي يجب عليك القيام بها في روسيا، كان طعام الغداء لا بأس به.
خرجت بعد تناول الغداء في حوالي الثامنة والنصف ليلاً، ولا أظنه ليلاً، حيث كان الجو الخارجي في وضح النهار، في تلك الفترة، وفي شهر يونيو ويوليو، لا يوجد ليلٌ في هذه المدينة، فالشمس تنتصف السماء طيلة اليوم، لذا، فلنقل مجازاً (الليل الإصلاحي) لهذا السبب تراهم يستخدمون الساعة بنظام ٢٤ ساعة بدلاً من ١٢ ساعة، كأن يقولون الساعة ١٨:٠٠ ويقصدون بذلك السادسة مساءاً، أو الساعة ٢٣:٣٠ ويقصدون بذلك الحادي عشر والنصف مساءاً، وهكذا.
فندق ارتيكا - الفندق القطبي
كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف ليلاً (٢٠:٣٠) عندما خرجت من المطعم للتجول حول المدينة، كان الجو بارداً جداً ولم أقوى على تحمله رغم اعتيادي على كثرة السفر للمناطق الباردة، الشوارع شبه خالية، فمن يرغب بالتجول في هذا الجو البارد؟!
سرت إلى أن وصلت إلى مركز المدينة، ووسط المدينة في مورمانسك عبارة عن ميدان حجمه ليس بكبير يدعى ميدان كونتانستوتوتيا، ويقصد بلفظ كونتانستوتوتيا في اللغة الروسية أي الدستور، في هذا الميدان يوجد أحد أقدم الفنادق في المدينة -إن لم يكن أولها- وهو فندق ارتيكا، ومعنى ارتيكا باللغة الروسية أي القطب، ولن نجد أنسب من هذا الإسم لهذا الفندق القطبي كونه يقع في الدائرة القطبية الشمالية الباردة.
شاشة المعلومات والتي تعرض الوقت والتاريخ ودرجة الحرارة
كان كل شيء مغلقاً، تجولت قليلاً ورأيت حديقة صغيرة بجانب الميدان، يوجد نافورة رائعة في منتصف الحديقة، ورغم برودة الجو إلا أنني وجدت بعض من الزوار يجلسون بجانب هذه النافورة في هذا الجو البارد، كنت أرى بالنسبة لي أن هذه النافورة تتسبب في برودة الجو أكثر مما هو بارد بالفعل، لذا فضلت الإبتعاد عنها. رأيت أيضاً في هذه الحديقة الصغيرة شاشة تعرض الوقت الحالي، بالإضافة لدرجة الحرارة الحالية، كانت درجة الحرارة حينها ٧ درجات مئوية، ولا أظنها كذلك، بالنسبة لي!
كنت أرتجف من شدة البرودة أتأمل حالي المحزن، لم أكن أملك أي ملابس إضافية، فحقيبتي ضائعة، وأنا هنا وحيداً في مكان متجمد وبالقرب من القطب الشمالي، دون ملابس شتوية تقيني من البرد القارس، ودون قفاز يدفئ يدي الباردتان، كنت أحس ببرودة شديدة لدرجة أنني لم أقوى على الكلام! الأمر الذي جعلني أتسائل، لقد وصلت درجة الحرارة في سيبيريا ثماني درجات مئوية، ووصلت درجة الحرارة أيضاً في سانتبيتيرزبيرغ ٣ درجات مئوية ولم أحس بهذا المستوى من البرودة، لماذا إذاً أتجمد هنا؟! هل لوجودي في الدائرة القطبية علاقة في الأمر؟!
سرت أبحث عن أي مقهى أو مطعم يقدم شراباً دافئاً، كان كل شيء مغلقاً، بعد حوالي عشرون دقيقة من المشي المستمر رأيت أحد المقاهي الصغيرة والتي بدى لي بأن أحداً ما بداخلها، ذهبت مسرعاً إلى الداخل، لم يكن المقهى كما ظننت، كان خالياً من الزوار، وكان جهاز صنع القهوى مغلقاً، رأيت رجلان يتحدثان بصوت منخفض، سألته إن كان لديه حليب أو أي شيء دافئ، كنت راضيٍ بأي شيء، أخبرني معتذراً بأن ماكينة القهوة لا تعمل، وأنهم لا يقدمون سوى الفودكا! والفودكا هو شراب مسكر يشتهر بشربه الروسيين، يزعمون بأنه يدفئهم ويحسن مزاجهم، بينما هممت بالخروج، دخل رجل وبيده قارورة كبيرة جداً (كتلك التي تسع لـ ٢ لتر) يريد تعبئتها بالكامل بشراب الفودكا!
كانت الساعة قد تجاوزت الحادي عشر ليلاً (إصطلاحي) عدت إلى الفندق وشربت هناك ما يكفي من الشاي، قضيت بعض من الوقت أكتب مذكرتي إلى الثاني عشر والنصف ليلاً، حاولت النوم مراراً وتكراراً، ولكن لم أتقبل فكرة النوم في وضح النهار، أو لم يتقبل جسمي ذلك، كنت مستيقضاً إلى الثالثة فجراً وأنا أرى الجو منيراً في الخارج، دون أي ظلام يذكر.
صحوت في اليوم التالي في التاسعة والنصف صباحاً، إفطار سريع قبل الخروج للتجول في جميع أرجاء المدينة، كانت أصناف مائدة الإفطار دسمة وغنية بالألياف والفواكه المجففة، فهو أنسب ما يمكنك تناوله في هذه الأجواء الباردة.
افضل ما يمكنك ارتداؤه في الأجواء الباردة، مناسب لدرجة حرارة ٤٠ تحت الصفر
نزلت بعد تناول طعام الإفطار إلى قسم الإستقبال للسؤال عن حقيبة الترحال التي لم تصل بالأمس، وجدت الحقيبة قد وصلت وأوصلوها من المطار إلى الفندق وهي بإنتظاري، حمداً لله، جميع محتوياتها سليمة، هذه أحد السلبيات التي قد تحصل عند تعدد الرحلات في يوم واحد ولمسافات متباعدة، خصوصاً عند تأخير الرحلات أو عند تغيير الطائرة.
قمت بتغيير ملابسي فوراً، وطلبت من الفندق غسل جميع ملابسي المتسخة، الجميل في الأمر أن برودة الجو جعلتني أبقي على ملابسي فترة أطول دون أي مشاكل تذكر، خرجت من الفندق متوجه إلى ميدان كونتانستوتوتيا الذي زرته بالأمس، أول شيء كنت أود فعله هو: شراء ملابس داخلية دافئة.
كان الجو العام يختلف كثيراً عما رأيته بالأمس، جميع المحلات تعمل والناس يتحركون بكثرة، أحسست ببعض الحيوية والنشاط. بدأت السماء تهطل مطراً، دخلت إلى مركز تجاري مجاور لشراء قفاز لتدفية يدي وبعضاً من الملابس الداخلية الشتوية، العديد من الأشكال والأنواع الفاخرة وبأسعار متفاوته، لم أكن أعرف ماذا اختار، ساعدتني البائعة في شراء ماهو مناسب لي.
أحسست براحة جميلة عند الإحساس بالدفئ يتسلل إلى عروق جسدي، جلست في أحد المقاهي لشرب القهوة إلى أن يخف المطر قليلاً، خرجت بعد ذلك سيراً على قدمي لزيارة الموانئ الثلاث، مررت في طريقي على محطة القطارات الرئيسية في مورمانسك ومركز المبيت بها، رأيت مقصورة قطار قديمة يعود تاريخها إلى ١٩١٦م أي مئة عام حتى الآن، أكملت طريقي بعدها إلى ميناء المدينة، كانت السفينة النووية، ولسوء الحظ، مغلقة بشكل طارئ للصيانة، فيما ستعاود العمل في يوم الغد، إلا أنني لن أكون هنا غداً في مورمانسك.
توقفت لتناول طعام الغداء، لا يوجد طعام طازجاً هنا سوى السمك، ماعدا ذلك فهو كله مستورد من موسكو، تناولت ماتيسر من السلطة الخضراء والأرز والدجاج، خرجت بعد ذلك وباستخدام تطبيق سيارة الأجرة (ياندكس) للذهاب إلى تمثال الجندي المجهول المسمى باليوشي.
عندما وصلت السيارة وأثناء سيرنا في الطريق، سألني السائق عن موطني، كانت دهشتي أكثر بكثير من دهشته عندما ألقى علي تحية الإسلام، كنت أظن سابقاً بأنه لا يوجد مسلمين هنا في مورمانسك، تبين لي لاحقاً أن السائق من دولة كازاخستان المجاورة لروسيا، وهو مسلم يعيش هنا، سألته إن كان يوجد مسجد هنا في مورمانسك، أخبرني بوجود مسجد واحد فقد وسيصطحبني إليه بعد الإنتهاء من زيارة تمثال الجندي المجهول.
يصل ارتفاع هذا التمثال، الذي يعتبر مثال للشجاعة ضد الغزو الألماني، يصل ارتفاعه إلى ٣٦ متراً، عندما بنوا الروس تمثال اليوشي، جعلو التمثال ينظر إلى جهة الغرب، ذلك لأن الألمان وصلو إلى هذه المدينة من تلك الجهة، من جهة النرويج، وعندما نقول جهة الغرب، فإن الغرب هنا غرباً مجازياً نظراً لنقطة المدينة الواقعة في دائرة القطب الشمالي من سطح الكرة الأرضية، بالإضافة إلى عدم وجود الشمس الدائم على مدار السنة، كما وضعوا أمام التمثال ناراً مشتعلة يقال بأنها لم تنطفئ منذ ٣٦ سنة.
كان التمثال طويلاً ضخماً يطل على ميناء المدينة وعلى جميع معالم المدينة الأخرى، ينتشر حول المنطقة أشجارً قصيرة ومتوسطة الطول، بالرغم من أن أعمارها قد تجاوزت ٢٥٠ سنة، إلا أنه -وكما ذكرنا سابقاً- أن عدم تواجد أشعة الشمس بشكل مستمر وبسبب برودة الجو الدائمة، جعلت من نمو هذه الأشجار بطيء جداً وبشكل يبدو وكأنها أشجار حديثة النمو.
أوصلني السائق -واسمه نور الإيمان- بعد ذلك إلى مسجد المدينة، كان الطريق متعرج يقع على ارتفاع عال وسط العديد من الخزائن والمستودعات، كنت استغرب حقاً وجود مسجداً في مكان كهذا، لفت انتباهي أن مسجد المدينة عبارة عن مبنى عادي متواضع دون وجود أي منارة له، وشكله من الخارج لا يوحي بأنه مسجد أبداً، استنتجت سريعاً بأن المسجد الذي أراه أمامي ما هو إلا جهد ذاتي البناء من قبل المسلمون هنا.
المسجد من الخارج
دخلت إلي المسجد فوجت العديد من الأطفال جالسون، حضروا جميعاً للسلام علي واحداً تلو الآخر، صعدت إلى الطابق الأعلى حيث يوجد مصلى النساء والمكتبة وغرفة الطعام، فيما يوجد في الطابق السفلي المصلى الرجالي وغرفة الوضوء ودورة المياة.
ألتقيت حينها بإمام المسجد، اسمه مراد، وهو شاب من روسيا الغربية ويعيش هنا في مورمانسك، كانت دهشته واضحة عندما علم أنني من المملكة العربية السعودية، لم يكن يتحدث الإنجليزية بطلاقة، لكنني سعدت عندما علمت أنه سيذهب إلى حج هذا العام بحول الله.
المسجد من الداخل
كانت الساعة حينها قبيل السادسة بقليل، أخبروني أنه سيحين موعد صلاة العصر قريباً، بدأ المصلين يحضرون إلى المسجد، حضر شاب صغير عمره ١٣ سنة اسمه عامر، كان هو أفضل من يتحدث الإنجليزية بينهم، كان عامر هو حلقة الوصل بيني وبين جميع الحضور.
اخبرني عامر بأنه لم يكن هناك مسجد من قبل في مورمانسك، وأن هذا المسجد بني قبل أربع سنوات فقط وبجهد ذاتي من قبل أفراد المسلمين هنا، كان هذا المكان في السابق عبارة عن مستودع للسيارات، تم شراؤه وترميمه وتحويله إلى مسجد، وتشييد الطريق المؤدي إليه، يعتبر بذلك أول مسجد في المدينة.
يتسع المصلى الداخلي لـ٥٠٠ مصلي، وفي كل يوم جمعة يحضر حوالي ٢٥٠ مصلي لصلاة الجمعة، أما في عيد الفطر، فإنه يحضر حوالي ٢٥٠٠ مصلي لصلاة العيد، حيث يصلي بقية المسلمون في الشارع عند إمتلاء المصلى داخل المسجد. صليت معهم صلاة الظهر والعصر جميعاً وقصراً.
قال لي عامر بأنهم صائمون صيام يوم الخميس، تعجبت لوهلة من قوة تحملهم لصيام السنة وهم في مدينة نهارها طويلة، بل أن اليوم كله نهار، وانهم يدعونني لتناول طعام الإفطار عند صلاة المغرب في الثامنة والنصف ليلاً حيث موعد صلاة المغرب، ألحوا علي بالموافقة، ووافقت مرحباً بذلك على أن أذهب إلى الفندق للراحة ومن ثم أعود مرة أخرى قبيل صلاة المغرب بقليل.
بالحديث عن الصيام ومواقيت الصلاة، قد يتسائل الفرد عن كيفية الصلاة والصيام في هذه المدينة، كيف يصلي المسلمون في فصل الصيف حيث لا ليل أبداً؟! وكيف يصلي المسلمون في فصل الشتاء حيث لا نهار أبداً؟ اختلفت الآراء الفقهية حول هذا الأمر، وبما أننا لسنا في موضع فقهي مناسب حول إبداء الرأي الديني، إلا أنه يجب علينا توضيح ما يجب علينا فعله عند زيارة أماكن ومدن كهذه على سطح الأرض، فالهدف هو رؤية كيف يعيش المسلمون هنا.
هناك أراء تقول بأنه يجب على من يعيش في هكذا مدن أن يتبع توقيت مكة، وهناك من يقول أنه يجب تتبع شروق وغروب أقرب مدينة يصلها الليل والنهار، أما هنا في مورمانسك، فيقوم المسلمون بضبط التوقيت على أقرب مدينة تشرق وتغرب بها الشمس بشكل عادي، يصلون على وقتهم، ويصومون على وقتهم أيضاً، كان موعد صلاة المغرب حينها في الثامنة والنصف ليلاً.
وصلت إلى الفندق للراحة قليلاً، دخلت إلى متجر صغير مقابل الفندق للتضبع ببعض الحاجيات، لفت نظري هنا وجود أصناف عديدة من الكافيار الفاخر، بالإضافة إلى انتشار الفواكه المجففة، فهو الخيار الوحيد المتاح هنا لمن يريد صحة جيدة في تناول الفاكهة. كل شيء هنا يباع بالمكيال حتى البطاطا المجمدة، كان الأمر غريب بعض الشيء، اشتريت ما تيسر لي من مؤونة ثم عدت إلى الفندق قبل الذهاب إلى المسجد مرة أخرى.
ألتقيت بالجموع وصليت معهم صلاة المغرب، حضر بعد الصلاة شاب أردني يدعى راكان، استغربت وجود شاب عربي يعيش هنا، أخبرني حينها راكان بأنه يدرس الجامعة لمرحلة البكالوريوس في تخصص هندسة البترول هنا في مورمانسك، سألته عن سبب اختياره لهذه المدينة الباردة؟ قال له أنه يدرس بشكل مجاني، ابتعاث كامل على نفقة الحكومة الروسية، وأن الحكومة الروسية هي من اختارت له مدينة مورمانسك للدراسة بها، يعيش راكان في مورمانسك منذ ما يقارب سنة ونصف، سألته إن كان هناك أناس عربيون آخرون، فقال بأنه يوجد إمرأة عراقية أخرى تدرس هنا في مورمانسك.
صعدنا إلى الطابق الأعلى حيث طعام الإفطار، قدموا لنا حساء يسمى (تشوتشوارا) كنت قد شربت مثله في مدينة أوفا، وحساء التشوتشوارا هو حساء يحتوي علي بعض الخضار واللبن أو الزبادي، بالإضافة لعجينة شرق آسيوية محشية باللحم تسمى ببلدنا محلياً بـ(المنتو) صاحب هذا الحساء الخبز الروسي والذي يسمى بلغتهم (خليب) تناولنا بعد ذلك السلطة الروسية الحمراء، ومن ثم شربنا الشاي.
عامر بجانبي، ومن ثم أبا عامر، ومن ثم الصديق راكان
أثناء تناول الطعام كان أبا عامر يتحدث عن السعودية طيلة الوقت بكل ما هو خير، ذكر لي الإمام مراد بأنه يتابع أخبار هيئة كبار العلماء في السعودية بشكل مستمر، وانه يحب متابعة الشيخ صالح الفوزان بشكل خاص، قال لي أحدهم بأنهم كانوا دوماً يتمنون بأن يزورهم أحد من السعودية، وأنهم يسعدون جداً عندما يزورهم أحداً من بلاد إسلامية أخرى لألقاء التحية، فالرابط هنا هو الدين الإسلامي والمحبة في الله جل في علاه، طلب مني أبا عامر توجيه نصيحة واحدة للأطفال، نصحتهم بتقوى الله دائماً وأبداً، والمحافظة على حفظ كتاب الله، فهم مازالوا صغارا، وهو الغاية والوسيلة في كل شيء.
كان قد بقي ساعة ونصف على موعد صلاة العشاء، خرجت مع راكان للتجول والحديث في منطقة مجاورة حول المسجد، كان راكان يحدثني عن حياته الدراسية هنا في مورمانسك، وعن كيفية محاولته للتأقلم والاجتهاد في دراسته، في ظل الوحدة والأجواء الباردة، أخبرني راكان أن ما رآه في سنة ونصف هنا في مورمانسك يوازي سنين عديدة من السنوات التي عاشها في الأردن.