روفانيمي، رؤية الشفق القطبي للمرة الأولى
روفانيمي، عاصمة مقاطعة لاب لاند الشمالية، بوابتك لدائرة القطب الشمالي تبدأ من هنا، تبعد حوالي 810كم من العاصمة هلسنكي، مدينة بسيطة وهادئة، سكانها لا يتجاوز تعدادهم 60 ألف نسمة.
لماذا أذهب إلى روفانيمي
إن مدينة روفانيمي هي بمثابة نقطة إنطلاق لجميع مدن فنلندا الشمالية، فضلاً عن سهولة زيارة القرى المجاورة والقيام بالعديد من الأنشطة الرياضية في فصل الشتاء، يوجد الكثير من المكاتب السياحية التي تقوم بأنشطة متنوعة وجميعها تنطلق من روفانيمي، لذا، فهي خيار سهل ومناسب جدً خصوصاً للعوائل.
أما إن أردت المزيد من التحدي والإثارة، فبإمكانك ركوب الباص أو السفر بالطائرة إلى أقصى شمال فنلندا -كما فعلت- إلى مدن باردة جداً، مثل ساريسيلكا، إيفالو، وإيناري، هناك العديد من الأنشطة الثلجية تستطيع القيام بها أيضاً، ولكن، يجب عليك تحمل درجات البرودة، كان معدل درجة الحرارة في تلك المناطق أثناء زيارتي في شهر فبراير حوال 20 درجة مئوية تحت الصفر
كيف أصل إلى روفانيمي؟
في حال قدومك من العاصمة هلسنكي، تستطيع القدوم بواسطة الطيران، عبر خطوط طيران Finnair تستغرق الرحلة حوالي ساعة ونصف، أو تجربة قطار المبيت، وهي تجربة ممتعة بالنسبة لي، يتحرك قطار المبيت من هلسنكي في الحادي عشر والربع ليلاً، ويصل في صباح اليوم التالي حوالي العاشرة صباحاً.
درجة الحرارة في روفانيمي
في خلال زيارتي في شهر فبراير، كانت درجات الحرارة تصل إلى 15 درجة مئوية تحت الصفر، وفي يوم واحد فقط، وفي قرية مجاورة، وصلت درجة الحرارة إلى 20 درجة مئوية تحت الصفر، تزداد المنطقة برودة كلما اتجهنا شمالاً
وماذا عن الشفق القطبي؟
إن كنت ترغب برؤية الشفق القطبي، فمدينة روفانيمي مكان مناسب لرؤية الشفق، إن رغبت بالتنزه وحيداً كل ماعليك فعله هو الخروج والإبتعاد عن أنوار المدينة قليلاً، إن كانت السماء صافية، وإن كانت زيارتك في فترة مواسم ظهور الشفق القطبي، فستراه بالعين بالمجردة، أو بإمكانك الترتيب مع بعض المكاتب السياحية التي تأخذك لرحلة لرؤية الشفق القطبي! ولكن، لظهور الشفق القطبي عوامل كثيرة يجب فهمها أولاً، مع العلم بأن فرصة رؤية الشفق تزدادا وضوحاً كلما إتجهنا شمالاً.
قرية سانت كلوز
تبعد هذه القرية حوالي نصف ساعة من المدينة، ومن منتصف قرية سانت كلوز يكون بداية دائرة القطب الشمالي، يمكنك الذهاب إليها بواسطة الباص، وبإمكانك عند زيارتك لهذه القرية التعرف وإلقاء نظرة شاملة حول الثقافة الفنلندية، فضلاً عن زيارة بعض الغابات وحدائق كلاب الهيسكي، تعتبر قرية سانت كلوز مناسبة للعوائل كثيراً، فكل شيء هنا مرتب ومنظم ومبسط، قد لا تكون مناسبة للشباب محبي المغامرة كثيراً
مشاهدات من روفانيمي - لاب لاند
الجمعة 30 جمادى الأول 1439هـ - 16 فبراير 2018م
انطلقت من العاصمة هلسنكي في الحادي عشر والربع ليلاً في رحلة مبيت استمرت حوالي 11 ساعة متوجهاً إلى مدينة لاب لاند بواسطة القطار، كانت قطارات فنلندا هي أحدث وأرقى قطارات مبيت رأيتها مقارنة بقطارات روسيا والصين وإسبانيا. كان الوقت شبه متأخراً، خلدت للنوم مباشرة بعد أن بدأ القطار بالتحرك.
صحوت من نومي في الثامن والنصف صباحاً من يوم السبت، كان المشهد المطل من خلال النافذة يشعرك بالتجمد، البياض يكسو كل شيء، صليت وتناولت إفطاري في مطعم القطار، كنت مستعداً بكل من أملك من طاقة ونشاط لرؤية المدينة الباردة.
وصل القطار في العاشرة وخمسون دقيقة صباحاً، بضع خطوات قليلة منذ أن نزلت من المقصورة حتى احسست بالبرد يتسلل إلى ساقي، كنت قد اشتريت ولبست ما يكفي من الملابس التي تحافظ على حرارة الجسم، لذا فلا خوف من البرودة القارسة حتى الآن، تجولت في وسط ساحة المدينة حتى بلغ البرد وتمكن من أطراف جسدي، دخلت إلى مركز تجاري لشرب قهوة ولتدفئة جسدي، دقائق قليلة حتى خرجت مرة أخرى أكمل تجولي.
عندما خرجت من المركز التجاري رأيت ثلة من الناس بدأو بالتجمع حول سيارة كبيرة توقفت وأخرجت من وسطها عربة فوقها قدر ساخن وكبير، بدأ مجموعة من الناس توزيع طعام دافئ، ذهبت لرؤية ما يحصل، رأيتهم يقفون بشكل طابور جماعي كل ينتظر دوره، وقفت معهم ولا أعلم ماذا يقدمون، عندما حان دوري سألتهم عن محتويات هذا الطعام، قالوا لي بأنه أزر وقد خلط معه حليب ساخن، وياله من طعام دافئ في هذا البرد، سألت عن ثمنه وقالو أنه مجاناً، طلبت القليل.
أرشدوني إلى طاولة يوجد عليها شراب التوت والكرز المركز وبعضا من بودرة القرفة، اقترحوا علي وضع القليل منه على طعامي، سألت عن الشخص المسؤول عن توزيع هذا الطعام، أشارو إليه، ذهبت إليه كي أشكره، سألني عن موطني وتفاجئ كثيراً، أخبرني بأنه قد قدم الأسبوع الماضي من استراليا إلى فنلندا عبر الخطوط الإماراتية، كان قد توقف في مدينة دبي لوقت قليل، أخبرته بأننا نعد مثل هذا الطعام بطريقة مشابهة قليلاً ونسميه في بلادنا "أرز بالحليب" سألته عما يسمونه هنا فقال لي بأنه يدعى "ريزيبورو".
قبيل الثالثة بقليل ذهبت إلى نزل الشباب، يدعى نزل ومقهى كوتي، كان هذا النزل عبارة عن مقهى في الدور الأرضي، وتقع غرف النزل في الأدوار العلوية، وقفت عند قسم تسجيل الدخول لتقف جنبي فتاة كانت قد حضرت للتو، اخذت مفتاح غرفتي واطلعت على تعليمات المكان، ومن ثم صعدت إلى الغرفة للصلاة والراحة قليلاً.
نزلت مرة أخرى لأرى نفس الفتاة جالسة، بادرتني بالسؤال عن موطني، عندما سمعت "المملكة العربية السعودية" بادرتني بقول "هل أنت من الرياض؟" سعدت بأن أرى السياح قد اعتادو على معرفة السعودية في الأونةالأخيرة.
اسمها جوليا، سائحة روسية، وتحديداً من موسكو، اخبرتها عن رحلتي الروسية الأخيرة ولم استغرب دهشتها مما قمت به، فهي لم ترى جميع المناطق التي زرتها في روسيا، تعمل جوليا في مجال المحاماة لمدة 3 أسابيع متتالية، فيما يكون الأسبوع الرابع إجازة كاملة تسافر خلاله إلى شتى بقاع الأرض، اختار القدر لها هذه المرة أن تلتقي بصحبة شاب سعودي أسمر اللون في شمال الكرة الأرضية، في روفانيمي.
سألتني الفتاة عن خطتي خلال اقامتي في هذا المدينة، اخبرتها عن نيتي لزيارة قرية سانت كلوز في يوم الغد، اتفقنا للذهاب سوية، كانت جوليا مرهقة وأرادت النوم باكراً، أما أنا فقد خرجت في الرابعة والنصف عصراً لزيارة متحف مجاور يدعى متحف Arktikum
تجولت في المتحف الذي يحكي ماضي المنطقة والعديد من القصص وصور الأحوال الجوية وتضاريس الشفق القطبي، بالإضابة لماضي الدولة عموماً خلال احتلالها من قبل الروس قبل 101 عام، فضلاً عن حديثهم عن الأقلية العرقية الذي يدعون بشعب السامي.
خرجت قبيل مغيب الشمس إلى النهر المتجمد للتصوير الجوي، كان المنظر جميلاً، منظر لم أكن أتوقع أن أراه إلا في خيالي، نسيت نفسي تماماً خلال التصوير، بدأت أطراف أصابعي بالبرودة وفقدات الإحساس بها، كنت أحس بالبرد يتسلل إلى يدي شيئاً فشيئاً حتى لم أستطع الإمساك بشيء، جمعت كاميراتي وحقيبتي وعدت إلى داخل المتحف الدافئ لفترة من الوقت، كان ما فعلته مخاطرة صحية تألمت بسببها لفترة من الوقت، ولكن كنت سعيداً جداً بما رأيت وبما التقطت من صور، صوراً مصحوبة بألم البرودة.
ذهبت إلى مقهى في وسط المدينة، شربت القهوة وكتبت بعضاً من مذكراتي إلى الثامنة، خرجت بعدها للتجول قليلاً وكانت البرودة تزداد شيئاً فشيئاً، بلغت درجة الحرارة حينها 17 درجة مئوية تحت الصفر، دخلت إلى مطعم لتناول طعام العشاء، وقع اختياري هذه المرة على لحم حيوان الرنة المشوي، وهو حيوان لم نعتاد على تناوله، لحمه خفيف ومذاقه لذيذ ورائع.
صحوت في اليوم التالي في السابعة والنصف صباحاً، تناولت إفطاري في مقهى النزل، خرجنا، جوليا وأنا قبيل العاشرة بقليل إلى موقف الباصات استعداداً للذهاب إلى قرية سانتا كلوز، كانت المسافة ليست بذات البعد، أقل من نصف ساعة حتى وصلنا إلى وجهتنا.
قرية سياحية بحته، مختلفة عن مفاهيم القرى التي اعتدت عليها، مايميزها بالنسبة لي هو وقوع القرية رسمياً على دائرة القطب الشمالي فقط، كانت البرودة في أقصى درجاتها بالنسبة لي، عشرون درجة مئوية تحت الصفر في صباحاً باكر وأشعة صفراء، تجولنا في الغابة المجاورة إلى أن أحسسنا بعدم القدرة على التحمل، عدنا بعدها إلى وسط القرية كي ندفئ قليلاً.
شربنا الشاي المنكه بالتوت الذي تشتهر به فنلندا، قضينا وقتاً طويلاً بالحديث عن عدة أمور، تحدثنا عن السياحة والثقافة واختلاف المجتمعات، تبادلنا خبراتنا في السفر، سألتني جوليا أسئلة كثيرة عن رحلتي الروسية، أخبرتها عن رحلة قطار سيبيريا العظيم والتي كانت من موسكو إلى منغوليا (بإمكانك قرأة تقارير روسيا المفصلة من خلال صفحة التقارير الروسية).
خرجنا بعد قضاء ما تنسى من الوقت للبحث عن حديثة كلاب الهيسكي، كانت الحديقة على مقربة من القرية، كنت قد ركبت عربة كلاب الهيسكي وسرت بها قرابة الساعة ونصف، لذا فأنا اعرفهم جيداً، إلا أن جوليا أرادت رؤيتهم، جولة في حديقة مليئة بكلاب أليفة، عدنا بعدها لمحطة الباص إستعداداً للعودة إلى روفانيمي.
تناولنا طعام الغداء في مقهى النزل، كنا نتسائل حول إمكانية رؤية الشفق القطبي هذه الليلة، كانت السماء صافية، وكانت فرصة رؤية الشفق واردة جداً، سألت موظفي الإستقبال عن إحتمالية رؤية الشفق وعن أفضل مكان لرؤيته، أرشدوني إلى منطقة اعتاد الناس الذهاب إليها، فهي أفضل منطقة تمكننا من الإبتعاد عن ضوء المدينة بأكبر نسبة ممكنة، كما أخبروني على موقع يمككنا من خلاله الإطلاع على إحتمالية ظهور الشفق القطبي.
خرجنا قبيل مغيب الشمس بقليل للتجول بجانب جسر المدينة الشهير، كان النهر الذي يمر بأسفل الجسر متجمداً بالكامل، سرنا فوق النهر مسافة طويلة إلى أن غابت الشمس، لنعود مرة أخرى للراحة، استعداداً لموعد الشفق القطبي.
قيل لنا بأنه قد يظهر الشفق القطبي عادة من العاشرة مساءاً وحتى الثانية فجراً، وكلما تأخرنا كلما كانت فرصة رؤيته أفضل، خرجنا في العاشرة وخمس وأربعون دقيقة من نزل الشباب باتجاه الجهة المقابلة للجسر، حيث يتناقص النور شيئاً فيشئاً كلما ابتعدنا عن المدينة، وصلنا إلى منطقة شبه مظلمة وانتظرنا إلى حوالي الثاني عشر إلا قليلاً، تسلل البرد إلى أطراف أيدينا وأرجلنا، ولم نعد الإحتمال أكثر من ذلك، قررنا العودة خائبين مستسلمين.
فور خروجنا من فوق النهر المتجمد والسير تحت جسر المدينة، اخبرتني جوليا بأن الثلج يغطي قبعتي وقليلاً من رموشي، كان البرد شديداً وكانت درجة الحرارة حينها 22 درجة مئوية تحت الصفر، ناولتها هاتفي لتأخذ لي صورة، قالت لي استدر قليلاً، واستدارت هي في الجهة المقابلة حاملة هاتفي، قامت فجأة بالصراخة، قالت لي: انظر، وهي تشير إلى السماء، كنت مستغرباً كثيراً لصراخها ظناً مني أنها قد تألمت لشيء ما، نظرت إلى حيث تشير، إلى السماء، وإذ بي أرى الشفق الأخضر يملئ المكان، نوراً أخضرا جميلاً رائعاً يملئ السماء.
صرخت، صرخت مرة أخرى، ركضنا جميعاً إلى وسط النهر نعود حيث كنا، البرودة تسطير على كل شيء، والفرحة بتحقيق الحلم كانت قد سيطرت إحساسنا حتى ببرودة المكان.
جلسنا ما يقارب 40 دقيقة ونحن نلتقط الصور للذكرى الرائعة، ذكرى لم ولن أنساها، رؤية الشفق للمرة الأولى.
فور اعتيادنا على منظر الشفق وزوال الفرحة الأولى، رأينا أنفسنا في مأزق كبير، بدأنا نستوعب أننا لم نشعر بأقدامنا كلها، كنا واقفين وسط كوم هائل من الثلوج طيلة الوقت دون حراك، حاولنا التحرك بشكل بسيط حتى تتولد الحرارة وتتسل إلى أجسادنا، كان الليل قد تجاوز منتصفه، بلغت الساعة الواحدة والربع ليلاً، بدأنا نركض حتى لا نحس بالبرودة، كان جهاز الكاميرا والحامل الثلاثي بارد لدرجة أنني لم أقوى على حمله، قمنا نبحث عن أي مكان نتدفى به قليلاً، ولكن كانت المدينة بأكملها نائمة، عدنا إلى النزل بعد الواحدة والنصف، والتعب يسيطر على أجسادنا.
نمت كثيراً، صحوت في العاشرة صباحاً، تناولت طعام الإفطار وارتحت قليلاً حتى حان موعد رحلتي الأخرى إلى أقصى شمال فنلندا، بلدة صغيرة تدعى إيفالو، 4 ساعات ونصف بالباص حتى أصل إلى هناك، ودعت موظفي النزل الرائعين، ودعت جوليا، شكرتها على جميع اللحظات الرائعة، خرجت ذاهباً إلى مغامرة جديدة.
- موقع لمتابعة تحركات الشفق القطبي
- http://www.aurora-service.eu/aurora-forecast